في لحظة سياسية دقيقة تتسم بارتباك التنسيق بين الأغلبية والمعارضة، يأتي اجتماع المجلس الوزاري الأخير ليؤكد مرة أخرى مركزية هذه المؤسسة في توجيه دفة الفعل السياسي بالمملكة، ليس فقط من خلال صناعة القرار الاستراتيجي، بل أيضا عبر آلية التنبيه والتقويم والمساءلة. فقد حمل هذا الاجتماع رسائل واضحة تتجاوز الطابع البروتوكولي للمجالس الوزارية، موجهة إلى الفاعلين الحكوميين بضرورة الارتقاء بالأداء السياسي والمؤسساتي نحو نموذج أكثر نجاعة وقربا من المواطنين.
القراءة المتأنية لأشغال المجلس الوزاري الأخير، وفق تحليل للدكتور منتصر السويني توصلت به هسبريس، بصفته باحثا في العلوم السياسية والمالية العامة، تكشف عن دينامية متجددة في منطق الحكم، قوامها الحكامة العمودية، وتثبيت المسؤولية الفردية للوزراء أمام السلطة التي عينتهم. وهي دينامية تؤشر على انتقال تدريجي نحو نمط من التدبير يرتكز على التقييم الدقيق للكفاءة والنجاعة، ويُؤسّس لمرحلة جديدة شعارها: مغرب المونديال ومغرب الأوراش الكبرى، بروافد بشرية قادرة على مواكبة طموحات الدولة الحديثة، لا فقط بمنطق الاستمرارية، بل بمنطق الابتكار والفعالية.
نص المقال:
تعرف اجتماعات المجالس الوزارية من خلال أجندتها القوية أو ما يعرف بالسياسة من خلال مربعها المرتبط بالهندسيات الكبرى، والمعروف عن العهد الجديد انحيازه للسياسة باعتبارها فعلا متجددا على طريقة النيوديل، هذه الطريقة التي وضح معالمها الرئيس الأمريكي روزفلت في خطابه الشهير بمناسبة تنصيبه من خلال التأكيد على أن “هذا الوطن في حاجة إلى الفعل الفوري، الشيء الذي يحتم علينا الفعل السريع”، ولكن السياسة ليست فقط هندسيات كبرى؛ فهي من جهة أخرى كذلك كل ما يتعلق بالمطبخ الداخلي السياسوي، وبالتالي من المفروض على المؤسسات القوية أن تجيب على الشقين، خصوصا وأن اجتماع المجلس الوزاري الأخير جاء في زمن وطني يشهد عجز الأغلبية والمعارضة عن تدبير الاختلاف، وبالتالي انتظر المتتبعون للشأن العام بالمغرب الرسائل القوية التي سيبعثها هذا الاجتماع إلى الرأي العام الوطني بالأساس والمتعلقة بالمطبخ الداخلي السياسوي.
وفي هذا السياق، فإن الاستفسارات الموجهة لبعض الوزراء أثناء اجتماع المجلس الوزاري الأخير، لا يمكن قراءتها إلا من خلال رسالتين أساسيتين؛ تتعلق الأولى بتفعيل الحكامة العمودية، ولا يخفى على أحد دورها في ترسيخ الفعالية من خلال شحذ الهمم من جديد (الفعل-التصحيح-الفعل المصحح)، أما الرسالة الثانية فاعتمدت على استعمال تقنية إعادة تنظيم المنظومة من خلال الرفع من الرأسمال الوزاري لوزراء معينين وتقليصه بالنسبة لآخرين، والذي استهدف دفع الوزراء والحكومة إلى مربع “الفعل الحكومي المختلف” والفعل الحكومي الأكثر قربا من المواطنين، بكل ما يعنيه ذلك من تأكيد على أن المؤسسة الملكية اليوم تنقل مفهوم المسؤولية من العالم القديم ومدرسته القديمة المعتمدة على المسؤولية السياسية الجماعية، إلى المربع الجديد والمدرسة الجديدة المعتمدة على المسؤولية الوزارية الشخصية، وبالتالي المسؤولية التدبيرية القطاعية للوزراء.
أولا: المجلس الوزاري الأخير والرسالة الموجهة إلى رئيس الحكومة بضرورة تفعيل نوعية قيادته للفعل الحكومي
حسب الفصل السابع والأربعين من الدستور، فإن رئيس الحكومة يعين بظهير (من الحزب المتصدر). ورغم أن الإصلاح الدستوري لسنة 2011 قد عمل على تعزيز الرأسمال السياسي للشخصية التنفيذية الثانية في هرم الدولة من خلال الرقي به من مربع “الوزير الأول” إلى مربع “رئيس الحكومة”، (وهو الأمر الذي لم تقبل به مجموعة من الديمقراطيات العريقة في العالم، بحيث أن الرئيس ديغول رفض بالمطلق نقل أول الوزراء من منصب الوزير الأول إلى منصب رئيس الحكومة)، إلا أن رئيس الحكومة يبقى تحت السلطة الرئاسية للمؤسسة الملكية باعتبارها السلطة التي عينته، وبالتالي مسؤولا أمامها.
لهذا، انتظر المتتبعون الإشارات النوعية التي سترسلها المؤسسة الملكية من خلال اجتماع المجلس الوزاري إلى رئيس الحكومة خصوصا، وأن هذا الاجتماع تزامن مع بروز خلاف قوي ما بين الأغلبية والمعارضة وصل إلى حد تفكير جزء من المعارضة في تقديم ملتمس الرقابة بكل ما يعنيه ذلك من تفعيل المسؤولية الحكومية أمام البرلمان.
اجتماع المجلس الوزاري الأخير أرسل إشارات ضمنية إلى رئيس الحكومة، من خلال تأكيد البلاغ الصادر عن الناطق الرسمي باسم القصر الملكي بعد اجتماع المجلس الوزاري على أن الملك أصدر توجيهاته بأن يوكل تأطير عملية تدبير الدعم إلى لجان تشرف عليها السلطات المحلية، مع العلم أن تحديد الاختصاصات والمهام من خلال الفصل الثالث والتسعين من الدستور وكذلك المادة الرابعة من القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانون لأعضائها، تدخل في صلاحيات رئيس الحكومة، مما يدفع المتتبع لأشغال المجلس الوزاري الأخير إلى الاستنتاج بأن عملية “إعادة تحديد الاختصاص” من طرف المؤسسة الملكية هي رسالة ضمنية إلى رئيس الحكومة بضرورة العمل على تحسين نوعية قيادته للفعل الحكومي وضرورة تفعيل وابتكار نوع جديد من الحكامة لتفعيل الأداء الحكومي بشكل عام.
ثانيا: اجتماع المجلس الوزاري ورسائل الحكامة العمودية
ميزة اجتماعات المجالس الحكومية أنها تجمع الحكومة تحت رئاسة رئيس الحكومة، الذي يعتبر فقط سلطة اقتراح، مما لا يمنحه السلطة الرئاسية، كما أن اجتماعات المجالس الحكومية تتميز بغلبة روح التضامن والمسؤولية الجماعية، مما قد يدفع في لحظات معينة إلى شرعنة الأداء الروتيني والأداء الضعيف من أجل الحفاظ على التماسك الحكومي والحفاظ كذلك على الأغلبية الحكومية، مما سيدفع الرئيس الفرنسي السابق نيكولاي ساركوزي إلى القول “إن الحكومة تقوم بمجهودات جبارة من أجل الاستمرار في الحكم والحفاظ على تماسك الأغلبية وتنسى أن عليها كذلك القيام بمجهودات جبارة من أجل تحسين أدائها وفعلها العمومي”، وبالتالي تحتاج المجالس الحكومية من وقت لآخر إلى الضغط والاستفسار والتنبيه الذي تقوم به المجالس الوزارية، باعتبار هذه الأخيرة تجمع الوزراء بالسلطة التي عينتهم، وبالتالي السلطة الرئاسية، وهي السلطة التي يمكن أن تستفسرهم وتقيلهم، مما يجعل من اجتماعات المجالس الوزارية اجتماعات فعالة في دفع الوزراء المتمردين والوزراء غير المنضبطين والوزراء غير الفعالين إلى العودة إلى مربع الفعالية.
وفي هذا السياق، وجب التأكيد أن المجلس الوزاري الأخير عمل على تفعيل سلطة التعيين من خلال استفسار بعض الوزراء عن الفعل والأداء، وبالتالي فعلت المؤسسة الملكية ما أطلق عليه ميشيل فوكو “المنظومة التأديبية”، وهي مجموعة من الإجراءات والأقوال والتلميحات والتعبيرات المرتبطة بالتأطير والمراقبة وكذلك الخطابات الرنانة أو الرسائل الضمنية التي قد تلجأ إليها السلطة الرئاسية لدفع المعينين إلى مربع الفعل ومربع التصحيح ومربع الابتكار. وهو الأمر الذي عمل المجلس الوزاري الأخير على ترسيخه من أجل نقل مجموعة من الوزراء إلى مربع الفعالية التدبيرية.
ثالثا: اجتماع المجلس الوزاري الأخير واستكشاف نخب وزراء المونديال
اجتماع المجلس الوزاري الأخير شهد مكافأة الوزراء المستعدين للانخراط بقوة في خريطة طريق مغرب المونديال ومغرب أوراش المستقبل (من خلال تكليف الملك السلطات المحلية من أجل الإشراف على تأطير عملية تدبير الدعم لإعادة تكوين القطيع).
الاستعداد هنا مرتبط بقدرة الوزارة على القيام بإجراءات قادرة على تحقيق المصلحة العامة، وكذلك الوزارات القادرة على الانتقال من مربع الدولة المركزية إلى مربع الدولة اللاممركزة والوزارات القادرة على ترسيخ سياسة القرب.
اجتماع المجلس الوزاري الأخير بعث كذلك رسالة إلى الوزراء بضرورة التوفر على نخب قيادية جيدة، من خلال العمل على تأثيث المحيط الوزاري بالوزن الثقيل والنوعي تدبيريا؛ نخب تنتمي للمدرسة الجديدة وتمتلك “لوجسييل” جديدا ومهيأة بشكل جيد لامتحان إنجاح الهدف المرتبط بمغرب المونديال ومغرب مشاريع المستقبل.
الرسالة القوية التي وجهها المجلس الوزاري الأخير تتمثل في أن الزمن المغربي القادم هو زمن الوزراء الفاعلين اللذين ينجحون في امتحان التقييم داخل المجلس الوزاري، وبأن مغرب المونديال شأن سيخص بالأساس “المجلس الوزاري”، ومن خلاله الوزراء الفاعلين والمبدعين لأنهم القادرون على حمل اسم “وزراء المونديال”.
الخلاصة
الرسالة الأساسية التي يلتقطها المتتبع لاجتماع المجلس الوزاري الأخير تتمثل في التأكيد على أن مغرب المونديال ومغرب أوراش المستقبل سيعتمد في نجاحه بشكل كبير على “مؤسسة المجلس الوزاري”؛ لأن طبيعة ونوعية الزمن السياسي المغربي اليوم تؤكد أن المملكة توجد بشكل أساسي داخل مربع “المجلس الوزاري” وليس مربع “المجلس التشريعي”.
تواجد المملكة اليوم داخل مربع المجلس الوزاري من خلال ترسيخ وتفعيل الحكامة العمودية يؤكد بشكل أساسي أن المسؤولية الأساسية التي يجب تفعيلها اليوم (إن اقتضى الأمر ذلك) هي المسؤولية الشخصية للوزراء أمام السلطة التي عينتهم. وبالتالي، فان القاعدة الأهم في هذا الزمن السياسي هي قاعدة تؤكد على أن “كل حكومة تولد من خلال ظهير ويتم إنهاء مهامها بنفس الشكل”، وليس من خلال القاعدة “الحكومة تنصب من خلال أغلبية وتسقط بفقدانها للأغلبية”.