لماذا تقدّم الغرب ولا يزال يتقدّم، بينما تراجع العالم المسلم من بعد أن ظل في الصدارة زمناً طويلا؟ بالتحري سيجد الفضولي مثلي، مجرد تخمينات متوافقة مع خلفيات أصحابها الفكرية الإيديولوجية، بدلا من أبحاث ودراسات تاريخية. فمنهم من يعزو السبب إلى سوء فهم الدين وإلى ممارسته بشكل طقوسي دون تحويل قيّمه النبيلة إلى سلوك يومي عملي. صحيح، لكن أهذا هو ما كان ولا يزال سببا في تقدم الغرب وغيره؟
ومنهم من يرى أن الخلل يكمن في غياب ثقافة عقلية نقدية وعملية تتفاعل مع الواقع. صحيح أيضا، لكن هذا من آثار التقدم وليس سببا فيه. وثالث يربطه بالانحراف عن الحكم الرشيد المبني على الشورى والعدل والإحسان. صحيح كذلك، ما دام لكل قوم تصوره الخاص للحكم الرشيد. لكن لماذا حضر في الدول المتقدمة وغاب في غيرها؟ ورابع كما يرى شكيب أرسلان، يعيده إلى توقف النهضة العلمية والفكرية في العالم المسلم مقارنة بالغرب. صحيح، ولا يختلف في هذا اثنان. لكن يبقى السؤال قائما عن السبب في توقف تلك النهضة هنا وانطلاقها هنالك؟
هكذا هي أجوبة لا تشفي الغليل، لأنها لا تعتمد المقارنة التاريخية بين نفس العوامل التي يسرت التقدم بالغرب وتسببت في عرقلته بالمشرق. فالمقارنة بين ما حصل في كل من العالمين هي التي من شأنها أن تمكّن من الوقوف على الجواب الصحيح والحاسم. وعلى هذا الأساس يمكن القول ومن دون شك أن ذلك الجواب يكمن بالأحرى وإلى حدّ بعيد في الاستقرار السياسي. استقرار وفرته الطريقة الشرعية المتوافق عليها والراسخة في انتقال السلطة من حاكم إلى الذي يليه من بعد وفاته من جهة، وفي ما كان يترتب عنها من آثار إيجابية وحتمية على النمو والازدهار الاقتصاد والعلمي والتقني من جهة ثانية. كيف ذلك؟
في العالم المسلم، كان الخليفة أو السلطان يحتكر وحده حق اختيار من يخلفه، إما بإعلانه ذلك صراحة على الملأ من حوله عند اقتراب أجله، أو عبر وصية سرية لا تُفتح إلا بعد وفاته، وأحياناً يموت فجأة من دون إعلان أو وصية على الإطلاق. هذا الأسلوب في انتقال الحكم كان يفتح الباب على مصراعيه أمام شهية كثرة الطامعين في اعتلاء العرش من داخل الأسرة الملكية وأحيانا حتى من خارجها. وكان يؤدي باستمرار إلى صراعات فيما بينهم قائمة على المؤامرات والمكائد، بل وحتى ضد الحاكم الجديد الذي اعتلى العرش، إذ يبقى عرضة للتشكيك في شرعيته، بحق أو بغير حق. فمن أين سيأتي حينها التقدم؟
تلك الحالة شبه الدائمة، من عدم اليقين حول شرعية واستحقاق الحكم كانت تدفع الحاكم إلى تركيز كل جهوده على جمع أكبر قدر من الأموال، على حساب مقدرات البلاد وأموال الرعية، لتمويل جيش قوي يحمي عرشه وأسرته. وهكذا، كانت تحوّلت حالة عدم الاستقرار السياسي إلى عائق كبير أمام التنمية الاقتصادية، حتى في ظل وجود حركة علمية نشطة. فعندما تغيب ضمانات الاستقرار السياسي، تغيب معها التشريعات التجارية التي تشجع على استثمار رؤوس الأموال الكبرى، ويظلّ الاقتصاد محدوداً في النطاق الزراعي التقليدي في الحرف اليدوية المعيشية، فيغيب التقدم بغياب مقوماته السياسية اللازمة.
أمّا في الغرب، فقد وفّر ما عرف بقانون الساليك “Loi salique” وضوحا واستقرارا استثنائيين في مسألة انتقال العرش من المَلك القائم إلى من له الحق الشرعي في وراثته بعد وفاته. وقد وضعه الفرنجة في القرن السادس للميلاد في عهد الملك كلوفيس (466-511)، ونصّ على أن المُلك ينتقل حصرا إلى ابن الملك الأكبر سنا، حتى لو كان رضيعا أو جنيناً في بطن أمه. في هذه الحالة يتولى الحكم وصيٌّ على العرش إلى أن يبلغ الوريث الشرعي سن الرشد. وإذا لم يكن للملك ابن، انتقل العرش إلى الابن البكر لأخ الملك الأكبر ودواليك. بينما في إنجلترا وإسبانيا ودول أخرى، كانت القواعد مشابهة، لكنها كانت تسمح للأنثى البكر بوراثة العرش عند انعدام الوريث الشرعي من الذكور.
بذلك كان الوريث الشرعي معروفا للجميع بلا منازع، فلا يجرؤ أحد من داخل الأسرة المالكة أو خارجها على منازعته. وبفضل هذا الوضوح والثبات، أمن الملك على عرشه فلم يخشَ إلا الملوك الأجانب على الحدود. وللتصدي لهم أو ردعهم أو التوسع في أراضيهم، كان لزاما عليه أن يكرّس طاقته لتعزيز قوة مملكته عبر جيش قوي مدعوم بصناعة حربية متطورة واقتصاد رأسمالي يفوق اقتصاد جيرانه. وقد تطلّب ذلك تشريعات ومؤسسات قضائية متقدمة تضمن حماية رؤوس الأموال الكبرى، وبنية تحتية من طرق وجسور وقنوات تربط المدن بالموانئ، مما شجّع الاستثمار وازدهار التجارة، فكان ذلك أساس التقدم العلمي والتقني.
وذلك ما يفسر الحروب التي نشبت بين تلك القوى المتقدمة حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، كما يفسر توسعها الاستعماري والإمبريالي في مختلف أنحاء العالم. فبصرف النظر عن غياب العدالة الاجتماعية داخل كل منها، وعن افتقارها إلى الأخلاق الإنسانية في تعاملها مع الشعوب الأخرى، يبقى الاستقرار السياسي هو العامل الحاسم في تقدمها، وهو الاستقرار الذي افتقده المسلمون فتوقف مسار تقدمهم.
باختصار، تُظهر المقارنة بين التاريخ السياسي للعالمين الغربي والمشرقي أن الاختلاف الجذري في آلية انتقال الحكم هو ما صنع الفارق بينهما. فقد أتاح الأمن السياسي في الغرب، الناتج عن نظام واضح ومحكم لتداول السلطة سواء في الملكيات أو الجمهوريات، بيئة خصبة للتطور الاقتصادي والعلمي المنهجي. أما العالم المسلم، على الرغم من منجزاته العلمية المرموقة، فقد ظل مثقلاً بعدم الاستقرار السياسي، مما ظل يدفع الحكام إلى الانشغال بحماية سلطتهم بدلا من التفرغ إلى تنمية بلدانهم. وكانت النتيجة أن الغرب تقدم بثبات، بينما تراجع العالم المسلم. فالاستقرار السياسي كان وسيبقى إلى الأبد مفتاح التقدم، والعامل الحاسم الذي يميز الدول المتقدمة عن غيرها.