تشهد مدينة سبتة المحتلة، خلال فصل الصيف، تزايدا ملحوظا في محاولات العبور سباحة، في ظاهرة باتت ترتبط بدورة سنوية تحكمها عوامل طبيعية وأمنية واقتصادية، إضافة إلى ديناميات اجتماعية بين المهاجرين أنفسهم.
هذه الظاهرة، وإن كانت موسمية، فإنها تتأثر أيضا بالتغيرات الأمنية والاقتصادية، إضافة إلى ما يسميه علماء الاجتماع بـ”عدوى الهجرة”، التي تغذيها قصص النجاح والشائعات بين صفوف المهاجرين.
المناخ والجغرافيا
قال عبد الحميد جمور، باحث متخصص في الهجرة والتنمية جنوب-جنوب، إن ازدياد محاولات في هذه الفترة لتداخل عوامل موسمية وجغرافية واجتماعية-اقتصادية، تتفاعل فيما بينها بشكل يخلق ما يمكن أن نسميه بـ”نافذة الفرص المهاجرية”.
وأشار جمور، ضمن تصريح لهسبريس، إلى أن فصل الصيف يعرف، من الناحية المناخية، أحوالا جوية مستقرة نسبيا، تقل فيها مخاطر التيارات البحرية مع ضباب كثيف أو الانزلاقات في المسالك الجبلية المحيطة بالمدينة؛ ما يجعل الظروف الفيزيائية أكثر ملاءمة وتستجيب لشرط العبور جماعيا كان أو فرديا.
أما من الناحية الأمنية، فقد أوضح الباحث المتخصص في الهجرة والتنمية جنوب-جنوب أن “هذه الفترة تتزامن وذروة حركة العبور الشرعي المرتبطة بعطلة الجالية المغربية بالخارج، مما يولد ضغطا على المرافق والنقط الحدودية؛ مما يفرض إعادة توزيع الموارد الأمنية بشرية ولوجيستيكية، وهو ما يفهمه المهاجرون وشبكات الهجرة غير النظامية كمؤشر على تراجع جزئي في صرامة المراقبة”.
وقال المتحدث عينه إنه “من الناحية البنيوية، فإن هذه الفترة تتسم بالأزمات الاقتصادية في مناطق الانطلاق، خصوصا مع نهاية المواسم الزراعية في بعض مناطق إفريقيا جنوب الصحراء وتقلص فرص العمل الموسمي في المغرب؛ مما يرفع منسوب الإحباط ويعزز شعور دافع المخاطرة.
وتابع جمور: “في إطار علم اجتماع الهجرة، يمكن فهم الظاهرة عبر مفهوم (الهجرة بالعدوى الاجتماعية)”، موضحا: “حيث تؤدي النجاحات الفردية/جماعية أو الشائعات عن اختراقات سابقة إلى تحفيز موجات جديدة من المحاولات في الموسم إلى محاولات متكررة على مدار العام، خصوصا مع تغير المناخ الذي قد يوسع نطاق الفترات المناخية الملائمة للعبور”.
ونبه الباحث المتخصص في الهجرة والتنمية جنوب-جنوب قائلا: “أتوقع أن تظل هذه النافذة الصيفي محفزا رئيسيا لمحاولات العبور، خاصة مع استمرار اختلالات التنمية في بلدان المصدر، وتزايد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في التنسيق المسبق بين المهاجرين. وهذا ما يفرض أن تواكب هذه الديناميات الهجرية غير النظامية بسياسات وقائية شمولية، فقد نشهد في السنوات المقبلة تطورا لمحاولات متكررة على مدار العام، خصوصا مع تغير المناخ الذي قد يوسع نطاق الفترات المناخية الملائمة للعبور”.
بين سبتة ومليلية
في الوقت الذي تزداد المحاولات عبر سبتة، لا تشهد مليلية المحتلة نفس الزخم. ويفسر جمور هذا الأمر بقوله: “ترتبط كثافة المحاولات نحو سبتة أكثر من مليلية بعوامل أمنية وديناميات اجتماعية مرتبطة بسلوكيات المهاجرين وشبكاتهم”.
وأفاد الباحث المتخصص في الهجرة والتنمية جنوب-جنوب بأنه “على الصعيد الأمني، فمليلية تعرف بتشديد رقابتها الميدانية المستمر، واعتمادها على أنظمة مراقبة وتقنيات رصد عالية الفعالية، مما يرفع كلفة الفشل بالنسبة للمهاجرين؛ في حين أن سبتة تعرف لحظات ضغط على الموارد الأمنية تجعل فرص المحاولة أعلى نسبيا”.
وقال المتحدث: “كما تجدر الإشارة إل انتشار صورة ذهنية بين المهاجرين مفادها أن فرص النجاح في سبتة أكبر، وهي صورة تبنى على تجارب فردية أو روايات جماعية تنتشر بسرعة عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو التواصل الميداني بين المهاجرين”.
وأكد جمور أن هذه “العدوى التوقعية تدفع أعدادا أكبر لتجريب سبتة بدل مليلية، حيث يتناقل المهاجرون معلومات حول أوقات وطرق المحاولة؛ ما يجعل سبتة نقطة جذب مستمرة”.
وتحدث الباحث أيضا عن المستوى الاقتصادي، قائلا إن “الضغط الناتج عن الموارد وفرص العمل المؤقت في مناطق تمركز المهاجرين يجعلهم أكثر ميلا لتكرار المحاولات في فترات زمنية قصيرة، خاصة إذا اعتقدوا أن أحد المسارات (سبتة) يوفر فرصا أكبر من الآخر”.
وخلص إلى أنه “ستظل هذه التفاوتات قائمة ما دامت الفجوة في التصورات الأمنية والاجتماعية بين المدينتين مستمرة؛ بل وقد يتعزز إذا استمرت شبكات التهريب في الاستثمار في هذه الصورة الذهنية عبر ترويج قصص نجاح واقعية أو مبالغ فيها، مما سيؤدي إلى تكثيف الضغط على سبتة، وربما انتقال الضغط لاحقا إلى منافذ أخرى إذا تغيرت المعادلة الأمنية كما تعرفه مدن الجنوب المغربي كجهة كلميم وادنون العيون الساقية الحمراء او الداخلة وادي الذهب التي يحين دورها في الهجرة غير النظامية لتكون نقط انطلاقة نحو جزر الكناري أواخر غشت وبداية شتنبر لتستمر إلى بداية كل موسم”.
ممارسة معهودة
قال حسن بنطالب، الباحث المختص في الهجرة واللجوء، إن الارتفاع الملحوظ في محاولات العبور نحو سبتة ومليلية خلال فصل الصيف يجد تفسيره الأساسي في العوامل المناخية الملائمة لهذه الفترة من السنة، إذ تصبح ظروف البحر أكثر استقرارا، وتنخفض قوة الأمواج؛ ما يجعل السباحة أكثر أمانا نسبيا بالنسبة للمهاجرين غير النظاميين.
وأوضح بنطالب، ضمن تصريح لهسبريس، أن هؤلاء المرشحين للهجرة يستغلون هذه النافذة المناخية لتحقيق محاولاتهم، معتبرا أن الظاهرة ليست جديدة بالنسبة للمتابعين لمسار الهجرة في المغرب، حيث يتكرر هذا النمط سنويا، ويُسجل خلال الصيف ارتفاع في عدد المحاولات التي غالبا ما تنجح، رغم يقظة السلطات المغربية التي تدرك هذه الديناميات وتتخذ احتياطاتها.
وبخصوص تفضيل سبتة على مليلية، أشار الباحث المختص في الهجرة واللجوء إلى أن مليلية تتميز منذ سنة 2017 بوضع أمني خاص، يتمثل في حضور ميداني مكثف للأجهزة الأمنية، عززته بشكل أكبر أحداث الاقتحام الأخيرة التي شهدتها المدينة، ما رفع مستوى المراقبة وحد من فرص نجاح محاولات العبور عبرها. في المقابل، تبقى سبتة، بحكم طبيعتها الجغرافية، أكثر قابلية لاستهدافها بمحاولات الهجرة البحرية، إذ تتيح بعض النقاط الساحلية إمكانية السباحة لمسافات يمكن قطعها للوصول إلى المدينة، رغم ما تحمله هذه المحاولات من مخاطر جدية.
وأكد بنطالب أن المعطيات الجغرافية هي التي تحدد بشكل كبير وجهة المهاجرين، حيث تتيح بعض المسارات نحو سبتة فرصا أكبر للعبور بالمقارنة مع مليلية، حتى وإن كانت المخاطر قائمة في الحالتين. وأضاف أن هذا العامل، إلى جانب الصورة المتداولة بين المهاجرين حول فرص النجاح، يفسر تركيز أغلب المحاولات على سبتة خلال الموسم الصيفي.