لم يكن الطفل الذي أزهق روحه بحبلٍ معقود في إحدى غرف الطابق الثاني من منزل أسرته في ضواحي مراكش، سوى رقم جديد يُضاف إلى سلسلة متزايدة من القصص المأساوية التي باتت تتسلل إلى بيوتنا دون استئذان. لكن، في كل مرة تقع فيها مثل هذه الفواجع، نُصرّ على أن نكتفي بالصدمة، ثم نبحث بسرعة عن “شماعة” نعلق عليها الغموض، ونمضي.
لعبة إلكترونية؟ “فري فاير”؟ ربما. وقد تكون أيضًا ضغوطًا أسرية، أو فراغًا عاطفيًا، أو غربة داخل البيت، أو شعورًا قاتلًا بانعدام المعنى. لكن السؤال المؤلم الذي لا نطرحه كثيرًا هو: ما الذي يدفع طفلًا، لا يزال في أول عتبات الوعي، إلى أن يفكر في الموت قبل أن يُفكر في المستقبل؟ من الذي علّمه أن الخلاص لا يكون بالحوار أو بالصراخ أو بالبكاء، بل بالانتحار؟
نحن في مجتمع يطالب الطفل بالطاعة قبل الفهم، وبالإنجاز قبل الدعم، وبالكتمان بدل التعبير. نُخضع أبناءنا لاختبارات قاسية في “الرجولة المبكرة” أو “النجاح المدرسي” أو “الهدوء الاجتماعي”، ثم نستغرب كيف أن طفلاً انكسر في منتصف الطريق، بصمت. نحن جيل لا يجيد الإصغاء، ولا يمنح أطفاله وقتًا كافيًا لقول ما يعجزون عن صياغته بالكلمات. نتركهم يربّون أنفسهم عبر الشاشات، ويشتبكون مع العالم الافتراضي بوصفه الملاذ الوحيد من عالم واقعي أكثر قسوة.
في مثل هذه اللحظات، لا تكفي الإدانة، ولا يفيد أن نلقي باللائمة على لعبة أو هاتف ذكي أو مقطع فيديو على “يوتيوب”. فالانتحار عند طفل بهذا العمر لا يحدث فجأة، بل يكون النتيجة الصامتة لمسار طويل من التجاهل. تجاهل العلامات الصغيرة التي تظهر في سلوكه اليومي، في نبرته، في وحدته، في صمته الطويل، في تراجعه الدراسي، في انزوائه داخل غرفته، في دمعةٍ تنزل وتُمسح بسرعة. كلّها إشارات لا نراها، أو نتغافل عنها، حتى تنفجر بشكل مأساوي لا رجعة فيه.
الأخطر من الحادث هو طريقة تعاملنا المجتمعية معه. نُشيّع الطفل في جنازة حزينة، ثم نعود لنتابع الفيديوهات نفسها، ونشتري الألعاب نفسها، ونُعيد إنتاج الجو العائلي نفسه الذي أفرز الانفجار. لا أحد يضع نفسه موضع السؤال: هل أنا كأب أو أم أو أستاذ أو جار، كنت حائطًا يُسند هذا الطفل، أم جدارًا أُغلق في وجهه؟
المؤسسات التربوية في بلادنا لا تزال تفتقر إلى آليات يقظة نفسية حقيقية، والمدارس لا تقدم إلا الحد الأدنى من “التعليم”، دون أن تضع الصحة النفسية للأطفال ضمن أولوياتها. أما الإعلام، فقد صار متواطئًا في تسويق التفاهة والتطبيع مع المحتوى الذي يُفرغ الروح من المعنى، ويجعل من الصدمة نمطًا يوميًا من الاستهلاك.
هذه ليست فقط قضية أسرة مفجوعة، بل هي مرآة لنا جميعًا. نحن من فشلنا في جعل الطفولة وطنًا آمنًا، ومن حوّلنا البيت إلى محطة انتظار ثقيلة، والمدرسة إلى عبء، والمجتمع إلى مكان مملوء بالأحكام المسبقة واللامبالاة.
ولهذا، فإننا بحاجة إلى ما هو أعمق من الحزن العابر والأسى اللحظي. نحن بحاجة إلى يقظة جماعية حقيقية، تبدأ من الأسرة ولا تنتهي عند المدرسة أو الوزارة الوصية. يجب أن يُعاد النظر في دور المرشد التربوي والنفسي داخل المؤسسات التعليمية، وأن تُوفر فضاءات حقيقية للإصغاء إلى الأطفال، لا فقط كمُلحق إداري، بل كجزء لا يتجزأ من مهمة بناء الإنسان. كما ينبغي للإعلام أن يتحمّل مسؤوليته في توجيه الذوق العام بدل الترويج للفراغ والتفاهة. فكل انتحارٍ لصغير هو شهادة وفاة لجزء من ضمير هذا المجتمع.
ليس المطلوب أن نحاصر ألعاب الفيديو، بل أن نحرر أبناءنا من وحدتهم ونحن بجانبهم. أن نتعلم كيف نسألهم: “كيف حالك؟” دون استعجال في الجواب. أن نمنحهم ما هو أكثر من الطعام والنقود والتعليم، نمنحهم الشعور بأنهم مرئيون، مسموعون، محبوبون. لأن الطفل حين يشعر أنه غير مرئي، يبدأ في التخفي عن الحياة كلها… خطوةً خطوة… حتى يتوارى إلى الأبد.
من مات بالأمس هو طفل واحد. لكن كم من طفل يعيش الآن بوادر الانطفاء في صمت؟
الانتحار لا يسقط من السماء. إنه ينبت بصمتٍ داخل تربة الإهمال.