صدر للباحث في التاريخ مصطفى وبالسان كتاب جديد بعنوان “الإنسان والبحر في سوس: دراسة للمجال والسلطة والمجتمع والذهنيات من نهاية القرن الخامس عشر إلى بداية القرن العشرين”، عن منشورات مركز موكادور للدراسات والأبحاث، ليشكل إضافة نوعية ومرجعاً أساسياً في حقل الدراسات التاريخية المغربية، وخاصة التاريخ البحري للجنوب.
في 316 صفحة يُبحر القارئ مع الكتاب في مسار طويل ومعقد من التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي كان الساحل السوسي مسرحاً لها، مسلطاً الضوء، وفق مقاربة لا تكتفي فقط بسرد الوقائع والأحداث التاريخية، على علاقة البحر بالإنسان والمجال في الجنوب المغربي، وعلى دوره في صياغة ديناميات التبادل والتثاقف، وفي شبكة التفاعلات المحلية والإقليمية والعالمية بين القرنين الخامس عشر والعشرين.
ويرصد المؤلف كيف تحول ساحل بلاد سوس إلى ساحة صراع وتنافس استعماري، وما ترتب على ذلك من تحولات في أنماط الاستقرار والعيش، إلى جانب بروز “الحركات المهدوية” في المنطقة، التي حاولت استثمار الرأسمال الرمزي للبحر لتطرح مشاريع سياسية ذات لبوس ديني، جامعاً بين دقة البحث التاريخي وعمق التحليل، ليعيد رسم صورة البحر في سوس كفضاء للحياة والرخاء والتبادل، وكمسرح للصراع والمقاومة؛ والأهم من ذلك كله مساهمته في صياغة الاقتصاد والسياسة في المنطقة، وفي إعادة تشكيل ذهنيات سكانها على مدى أكثر من أربعة قرون من الزمن.
وأكد الباحث وبالسان في مقدمة الكتاب أن “تفرد ساحل سوس بمميزات جغرافية واقتصادية وديموغرافية جعل منه محط تجاذب القوى المهيمنة منذ القرن الرابع عشر”، وزاد: “ارتفعت وتيرة هذا التجاذب والاستقطاب في فترة الكشوفات الجغرافية خلال القرن السادس عشر، وأثناء مراحل اشتداد التنافس الإمبريالي والبحث عن الأسواق الخارجية خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين”.
وأشار الباحث ذاته إلى أن “هذا الامتداد الشاطئي ومؤهلاته أمران جعلا الساكنة المحلية في تفاعل دائم مع عالم البحر، إذ حاولت جهد الإمكان استثمار الخصوصيات التي تطبعه كمجال تكميلي لا غنى عنه لتدعيم البعد القاري، مبدعة أساليب أصيلة ضاربة في عمق التاريخ، وكاشفة مستوى التراكم النوعي للاستفادة من خيرات البحر ومجابهة قواه، ما أدى إلى تكوين انطباعات ذهنية حول هذا المجهول اللامتناهي، وصور في المخيال الجمعي تتأرجح بين تمثلات سلبية يترجمها الانحسار والانغلاق تجاه هذه الواجهة البحرية نتيجة المحن القادمة منه، وتمثلات إيجابية تميل إلى الانفتاح والانكباب على مننه”.
وكشف الكاتب أن البحر في سوس “كان محط تنافس القوى الكبرى التي احتلت أجزاء منه، لتقع بعد ذلك أجزاء منها تحت الاحتلال الأجنبي، وتبدأ صفحة جديدة قوامها التنكيل بساكنة هذا الساحل، وأسرها وإرسالهم إلى المستعمرات البعيدة”، مبرزاً “تغير ملامح الاستقرار في هذا المجال بفعل التقلبات التاريخية التي كانت نتائجها وخيمة على ساكنة ساحل سوس، حيث تم الابتعاد عن الساحل والتشوف إلى المرتفعات وسفوح الجبال، والانتعاش من مصادر شحيحة، والتكيف مع تدبير الندرة والقلة، والتناغم مع اقتصاد التيه، فتقلص اتصال الساكنة بالبحر”.
وحول عوامل اختيار الكتابة في موضوع الإنسان والبحر بسوس أكد مؤلف الكتاب أن منها ما هو موضوعي وأكاديمي، ومنها ما هو ذاتي نابع من دوافع شخصية، مشيراً إلى أن الدراسات التاريخية التي أنجزت عن سوس اعتمدت بشكل كبير على ثلاثة ثوابت رئيسية تحكمت في تحديد المسار التاريخي للمنطقة، متمثلة في المكون الجبلي والسهلي والصحراوي، فيما بقي البحر في منأى عنها، باستثناء بعض المحاولات القليلة التي اهتمت بأحد المباحث التي تدخل في صلب التاريخ البحري للمنطقة.
وأكد الباحث ذاته أن “التغييب الكبير للمجال البحري انعكس في الأبحاث التاريخية المرتبطة بسوس، حيث لا نكاد نجد أثراً للدراسات التي تهدف إلى توضيح مساهمة البحر في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والذهنية لساكنة هذه المنطقة”.
أما الدافع الذاتي فنابع حسب المؤلف من انتمائه إلى أحد القبائل المطلة على الواجهة البحرية لسوس (قبيلة الساحل)، وهو ما “شكل أحد أبرز الأسباب التي دفعتني إلى المغامرة والبحث في هذا الموضوع منذ مدة ليست بالهينة، وشكل وازعاً ذاتياً لمحاولة الإجابة عن بعض التساؤلات التاريخية المحيرة التي تتبادر إلى الذهن كلما اقتربنا من الواجهة البحرية”، بتعبيره.
وأبرز الكاتب ذاته أن “محاولة كتابة التاريخ البحري لسوس تصطدم بالعديد من العراقيل والصعوبات، لعل أبرزها غياب أرشيف بحري وطني يضم المؤلفات والوثائق ذات العلاقة بالنشاط البحري، إضافة إلى غياب كلي لتداول التراث الثقافي الساحلي في أدبيات التراث المحلي والوطني، وهو ما يجعل البحث في هذا الحقل المعرفي غاية في الصعوبة”.
وأشار الباحث أيضاً إلى عائق متعلق بـ”وجود الوثائق والنصوص التي تعالج النشاط الملاحي في سوس موزعة بين أرشيفات العديد من الدول الأوروبية، خصوصاً في الأرشيف الإسباني والبرتغالي والفرنسي والكناري؛ وهو التشتت الذي ساهم في تعميق جهلنا بالتاريخ البحري، وكرس ما ذهب إليه باحثون أمثال الأستاذة حليمة فرحات حين أكدت أن ما نجهله عن علاقة المغاربة بالبحر يفوق بكثير ما نعرفه”.
وخلص مصطفى وبالسان إلى أن “ضعف ظاهرة التدوين في سوس، واعتماد الساكنة على الرواية الشفوية في تخليد تاريخها وعدم اهتمامهم بالكتابة، يعد أحد أهم المشاكل التي صعبت مأمورية الكتابة في هذا الموضوع، ولاسيما في تأريخها لعلاقتها بالمجال البحري؛ فلا يوجد حسب علمي أي مخطوط أو وثائق مهمة كما ونوعاً تهتم بالمجال البحري في الصقع السوسي برمته، بينما يزخر بالروايات الشفوية التي تتضارب معلوماتها حسب المناطق، وتفقد الكثير من توهجها ومصداقيتها بتوالي الحقب”.