أخبار عاجلة
آس تكشف مدة غياب ليفاندوفسكي عن برشلونة -
منافس المصري في كأس الكونفدرالية 20252026 -
منافس الزمالك في كأس الكونفدرالية 20252026 -
مباشر | قرعة دوري أبطال إفريقيا 20252026 -

حمودي: المواقف العربية لا تتناسب مع "محرقة" إسرائيل ضد الفلسطينيين

حمودي: المواقف العربية لا تتناسب مع "محرقة" إسرائيل ضد الفلسطينيين
حمودي: المواقف العربية لا تتناسب مع "محرقة" إسرائيل ضد الفلسطينيين

في أحدث حوارات عالم الأنثروبولوجيا المغربي عبد الله حمودي، الأستاذ البارز في جامعة برينستون الأمريكية، يقدم قراءته للإبادة الجماعية للفلسطينيين التي يفسر سبب انتقالها إلى درجة “التجويع” و”الإبادة البيولوجية”، كما ينبه إلى التغيّر الجاري في قلب العالم وساحاته باختلاف لغاتها ومجالاتها بفضل القضية الفلسطينية، وما أبرزته الحرب “القيامية” الإسرائيلية الأمريكية ضد غزة وعموم الشعب الفلسطيني.

المدير المؤسِّس لمعهد الدراسات عبر الإقليمية للشرق الأوسط المعاصر وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى بجامعة برينستون من بين الوجوه الأكاديمية التي قادت بجامعات أمريكية حملات مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، بفعل تواطئها في دعم السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ويقدم في هذا الحوار رأيه في النقاشات الدائرة بالمنطقة الناطقة بالعربية، والمنطقة “الأوروبية”، ويقترح سبلا سلمية جديدة من أجل التشبث بحقوق الإنسان في فلسطين والعالم ووقف الإبادة، وعقد جديد يوصل مطالب مغاربةٍ إلى السياسات العمومية لبلدهم.

وعبد الله حمودي من أبرز الوجوه البحثية الأكاديمية في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وتقرأ أعماله بلغات من بينها العربية والإنجليزية والروسية والفرنسية والألمانية والإيطالية…

ولا تقتصر بصماته الأكاديمية على الولايات المتحدة، بل تحضر على سبيل المثال في “المعهد الزراعي” بالرباط، و”جامعة السوربون” الفرنسية، “ومعهد الدراسات المتقدمة” في برلين، و”كرسي راجني كوثري للديمقراطية بمركز دراسة المجتمعات النامية” في نيودلهي، وقد ارتبط اسمه أكاديميا بكتب أبرزها “الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة”، وهذا نص حواره مع جريدة هسبريس الإلكترونية:

-كيف تتابع الوضع الراهن المنتقل من الإبادة الجماعية إلى تجويع إسرائيل ساكنة غزة حيث يموت فلسطينيونَ جوعا؟.

حرب الإبادة سائرة قبل التجويع، فقد شُنت على غزة والفلسطينيين منذ 7 أكتوبر 2023. ونتذكر خطاب نتنياهو الذي تحدث فيه عن الانتقام، وجميع الوسائل الممكنة لأخذ الثأر، وحل مشكل غزة؛ فبدأت ماكينة الحرب، وشنت حربا على كل مستويات الحياة. والإبادة كانت مبرمجة منذ الأول، وبدأت في الخطاب الذي تحدث فيه عما يريد القيام به وجيشه، واتهم به الفلسطينيين، من قتل للأطفال… وصوّر خروجهم للهجوم على مهرجان موسيقي، على أنه هجوم على الثقافة، لا كما هو الأمر، وهو الهجوم على المستوطنات.

منذ ذلك أتت الماكينة الإسرائيلية على الأخضر واليابس، واستعملت السلاح البري والبحري والجوي، والاغتيال في البيوت، والعمارات، دون أي تفرقة بين المدنيين ومسلحي المقاومة الفلسطينية. أي إنهم أعطوا لأنفسهم حرية ضرب الجميع، ومن بعد تبين طبعا أن ما سميت الحملة العسكرية كانت بمستوى “قيامي”، ولا يوجد أي تناسب بينها وبين ما قام به الفلسطينيون يوم 7 أكتوبر، وكأن القيامة قامت، وهو عدم تناسب بدرجة لم نكن نتصورها. وكان ظاهرا أنها حملة ليست للقضاء على حماس كما قيل، بل للقضاء على شعب بكامله.

حماس هي شعب كله متضامن مع المقاومة، وشعب كله متضامن مع حريته، لا للقضاء على الإسرائيليين، فليست له إمكانات نتنياهو للحلم بذلك، بل هو يبحث عن حريته، في غزة المسيجة.

دائما من جانب نتنياهو وحكومته وغالبية الرأي الإسرائيلي ما روجوا مقولات زائفة، وإشاعات من قبيل قتلِ الأطفال والعجزة. طبعا نقول إذا كانت هناك تجاوزات في قانون الحرب، قام بها من أسقطوا الجدار وخرجوا، عندما يتفق الناس على وقف الحرب يُنظر في مثل هذه القضايا. لكن المهم أن الجيش الإسرائيلي بكل مكوناته وأطره كان قائما للقضاء على الفلسطينيين، ورُوج أن كل فلسطيني هو “حماس”، وأقحمت الحاضنة الشعبية من الأول في ما يجب القضاء عليه عسكريا.

رواية الجيش والحكومة الإسرائيلية تبدأ كل شيء من 7 أكتوبر، مثل خلق آدم، وكأن لا شيء قبل ذلك، لا 1948، لا النكبة، ولا الاستيطان، ولا ما كان الإنجليز يسمونه إرهاب المنظمات الصهيونية. هذا كلام يحاول منع ذكر ما فُعل بالفلسطينيين وفلسطين قبل 7 أكتوبر.

التجويع مرحلة من مراحل الإبادة، وهو أقصاها، ووراءه تظهر محاولة قتل جماعي أو ترحيل أو … فالتجويع أفظع، ويضرب مكونات المجتمع الفلسطيني بكامله في غزة، ولا يستثني شيئا، وهو مختلف لكنه يتكامل مع الوسائل الأخرى التي جاءت قبله للقضاء على الشعب الفلسطيني.

– بعد 7 أكتوبر 2023، في دجنبر وجهت رسالة مفتوحة للجميع، وخاصة لملك البلاد، لوقف الكارثة المسلطة على غزة بدعم أمريكي وأوروبي وتنفيذ إسرائيلي، لماذا اخترت وسيلة النداء؟.

وسيلة النداء لها مبررات. أنا من دعاة الإصلاح، وهذا الإصلاح كما أقول دائما يبدأ بالمؤسسة المحورية التي هي المؤسسة الملكية. وخلافا لبعض التيارات، أؤمن بالملكية البرلمانية، وأؤمن بأن الملكية صنعها المغاربة والمغربيات، وهم رجال ونساء، لا غيرهم، ولا يمكن أن يفرض عليهم أحد من الخارج الإصلاحات، بل ينبغي أن تنبع منهم.

هذه المؤسسة المحورية هي رمز وحدة البلاد، وبما أن رئيسها هو العاهل المغربي، وهو من يدافع عن حوزة الوطن، ويمثل الاستمرارية، وقد سبق أن كتبت هذا، فأنا واحد من الرعية أتوجه له باحترام، وأقول الأشياء التي يعرفها طبعا… وأطلب أن يسحبنا من كارثة التطبيع، ولا أعرف طبعا الإكراهات المحيطة، ولذلك قلت بتجميد التطبيع لا إلغاءه.

لكن، اليوم يظهر أننا ينبغي أن نذهب إلى ما هو أبعد من التجميد؛ فالموقف الذي نحن فيه الآن غير مسبوق، موقف راديكالي من جهة حرب الإبادة، والتجويع، وقبله أشياء أخرى فظيعة. وأقول إن هذا ينبغي أن يناقش جهرا، لتُنقذ المؤسسة المحورية المغربيات والمغاربة من هذه الكارثة.

-هل مواقف المنطقة الناطقة بالعربية متناسبة مع حجم ما يمارسه الجيش الإسرائيلي ضد غزة بإسناد أمريكي، بما في ذلك “جامعة الدول العربية” ومواقف “السلطة الفلسطينية”؟.

لا يوجد تناسب أبدا، ولنر الدول المطبعة مع إسرائيل. أضعف الإيمان هو أن هذا الصمت المطبق على حرب الإبادة والتجويع غير مفهوم لي؛ فلا يوجد تناسب. طبعا لم أتابع جميع الدول، لكنني مثلا أقرأ عن الجزائر، التي لها خطابٌ، وتشارك مراتٍ في مجلس الأمن، وتعضد ملف جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية؛ غير أني لم أتابع تصريحاتٍ في الجزائر. لكن أقول إن الموقف على كل حال في الدول العربية كلها ضعيف.

لكل دولة إكراهاتها، لكن يظهر أنه يوجد هامش، كان يمكن أن يمكّن كل دولة بإكراهاتها من التعبير عن شيء، حول الجوع كوسيلة حرب ضد الفلسطينيين. هذا فظيع. وحتى الدول مثل المغرب، التي لها علاقات وثيقة مع أمريكا، وسبق أن قلتُ إن عندها هامش، لأن عندها شعب وجيش، وطبقة مثقفة، ورصيد جيو سياسي وإستراتيجي بفعل موقعها، ولها علاقات عريقة مع أوروبا…

توجد عوامل عديدة تمكن الدول العربية من عدم التماهي أو عدم الصمت.

-مجموعة من الدول الأوروبية وأمريكا، باستثناء إسبانيا وإيرلندا، ترى الحرب على غزة حرب مفاصَلة. كيف تقرأ هذه المواقف الأوروبية والأمريكية الرسمية، خاصة أنك تقطن بين الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب؟.

الولايات المتحدة الأمريكية في تعاون وثيق مع إسرائيل. وكيفما كان الحال يلزم أن تحلل الخطابات التي تنشرها الولايات المتحدة ورئيسها وحكومتها. لكن في الحقيقة أنه من أيام جو بايدن (الرئيس الأمريكي السابق من الحزب الديمقراطي) ظلت الولايات المتحدة في تعاون وثيق مع إسرائيل، وتساعدها بأجَد الأسلحة وأقصاها فتكا.

لكن مع الجمهوريين قاطبة، والرئاسة الجديدة للولايات المتحدة، كان هذا التحالف ظاهرا للكل في الولاية الأولى، حيث عينوا سفيرا صهيونيا بافتخار، واعترفت أمريكا لأول مرة بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل. وكان صهر الرئيس ترامب، جاريد كوشنر، وهو رجل قوي، من زار الرباط من أجل الإعداد لاتفاق إبراهيم، المسمى أبراهام، وأرى صور لقاءاته.

سياسة الحزب الجمهوري لا تحتاج مكبرا لرؤيتها. والآن تعمق هذا وزاد في جميع المجالات، وخاصة في وسائل الحرب والدعاية والتمويلات، التي بعد أي مطالعة للصحف العالمية، والأمريكية خاصة، مثل “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست”. وبادرت الرئاسة (دونالد ترامب) بتعيين سفير ينفي تماما وجود شعب فلسطيني؛ فالسفير هاكيبي كان له برنامج خاص، يقول فيه إن تلك أرض ميعاد، ولا توجد إلا يهودا والسامرة، فلا وجود بالنسبة له للضفة الغربية. ولم أسمع حكومة عربية أو رئيس دولة عربي، أو حتى مؤسسات شبه رسمية أو رسمية، قالت كلمة حول هذا.

طبعا توجد الإكراهات والضعف، والعلاقات الاقتصادية الكبيرة، ويوجد تجذر العلاقات السياسية والاقتصادية في دول قوية بالمنطقة مثل السعودية، وتوجد طبعا القواعد العسكرية الأمريكية، والاتفاقيات المبرمة منذ زمن طويل، وتعميقها.

لكن يمكن لكل شخص رغم هذه الإكراهات أن يقول إن معاملة الشعب الفلسطيني في هذه الحرب ينبغي أن تكون لها حدود.

– في السياق نفسه أستاذ حمودي، خلال هذه الحرب على غزة تكرر مصطلح “ازدواجية المعايير” في التعامل الأوروبي الغربي، خاصة بين روسيا خلال حربها على أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين. لكن هناك من أجاب بأن هذه ليست “ازدواجية في المعايير”، بل هي “المعايير” في حد ذاتها؛ أي اعتبار قيمة الإنسان “الأوروبي” ومن مع المصالح “الأوروبية” ليست مثل قيمة باقي الناس، وهو ما ينسحب على استقلالية الإنسان، والدول، والحق في الرأي، بما في ذلك حرية الصحافة؛ فقبل 7 أكتوبر كنا نرى لاعتقال الصحافيين صدى عالميا كبيرا، وهو أمر ضروري، بينما اليوم قتلت إسرائيل أزيد من مائتي صحافي فلسطيني وصحافيين لبنانيين، وفق إحصاءات “منظمة مراسلون بلا حدود”، في رقم غير مسبوق، مع صمت عجيب جدا. هل نعاني من ازدواجية المعايير؟ أم إن المعايير أصلا هي عدم وجود مساواة بين الإنسان في ذهنية من يقودون مجموعة من الدول الأوروبية، وفي أمريكا ولو اختلفت القيادة الحزبية ‘ديمقراطية’ أو ‘جمهورية’؟.

هذا سؤال مهم جدا. طبعا يوجد مستوى جواب يقول إن هناك كيلا ظاهرا بمكيالين. فالحرب الأوكرانية مع روسيا كانت منذ الأول من أولويات الحلف الأطلسي، وأوروبا الغربية. وسأحكي لك حكاية صغيرة في هذا السياق.

جاءت للرباط امرأة من فرنسا أعرفها منذ القديم، وكانت تقدمية عاشت عائلتها في الرباط، لكن في عشائنا لم ترد الحديث إلا حول أوكرانيا، فقلتُ لها مع صديق آخر إن أوكرانيا بدأت حياتها المستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وفيها مصالح أوروبية، ومصالح “الناتو” الأمريكية الألمانية الفرنسية خاصة. كما قلت إنني لا أفهم لماذا بدأت روسيا الحرب، لكن السؤال هو كيف أن أوكرانيا لما استقلت قبلت توجيه صواريخ الناتو نحو روسيا؟ فأية دولة عظمى تتنافس مع أمريكا ستقبل هذا رغم الفروقات؟ وعلقتُ بأن هذا تقصير في الحذر.

– (مقاطعا) شيء شبيه بهذا وقع في أزمة الصواريخ الكوبية مثلا، إبان الحرب الباردة الأمريكية السوفياتية…

أجل. ولما قلنا لهم إن هناك فاجعة فلسطينية خلقتها إسرائيل، وماكينة مستمرة للسحق منذ ما قبل سنة 1948، وما سمي استقلال إسرائيل الذي هو النكبة، في قاموس فلسطين الذي أتفق معه؛ كما قلتُ لها أنا أتفق على توقيع شيء ما حول أوكرانيا، لكن على أوروبا أن توقع، وأن توقعوا معنا، على شيء حول فلسطين… لما قلتُ هذا نهض الضيوف من العشاء، وقالوا لنا، بمن فيهم السيدة التي أعرفها منذ وقت قديم: “Vous êtes des salauds”، أي “أنتم أوغاد”. وهذا شتم كبير من أصدقاء قدماء.

جوابا عن سؤالك أقول إن هناك قيمة داخلية للإنسان الأوروبي، والإنسان الإسرائيلي الذي هو شبه أوروبي، وهي قيمة تعلي دائما من شأن الإنسان والإنسانة الأوروبيين الأمريكيين، وخاصة الإنسان الأبيض، والحضارة الأوروبية، والثقافة الأوروبية، ولكل هذا قيمة داخلية، لا يصل إليها الإنسان العربي أو الفلسطيني.

-(متفاعلا) أولا، الصهيونية إيديولوجية أوروبية بامتياز، كما قال أبراهام السرفاتي. وثانيا التلقي الأوروبي للمحرقة، مقارنة بجرائم أوروبية أخرى ضد الدول الإفريقية والأمريكتين، ومنها تأسيس أمريكا على إبادة شعوبها الأصلية. وهنا أستلهم ما قاله إيمي سيزير، وهو أن اعتبار “الهولوكوست” الفاجعة الأكبر له علاقة بما قام به أوروبيون ضد أوروبيين آخرين، أي كيف مارس الأوروبيون هذا على من هم مثلهم. بينما الجرائم الأوروبية الأخرى، ولو تعددت وعبرت القرون وأودت بضحايا أكثر، فإنها تبقى في ظِلّ الجريمة التي طالت أوروبيين من طرف أوروبيين آخرين. ما رأيك؟.

يظهر لي أني متفق تماما مع هذا، وسبق أن قرأت نص إيمي سيزير حول الأمر.

بمعنى أن السؤال الأوروبي هو كيف وصلنا إلى ممارسة المحرقة ضد أوروبيين آخرين؟ والمبطن في هذا هو أن ممارسة هذا ممكنة ضد الشعوب الأصلية في أمريكا الشمالية، حيث توجد الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعرضت لإبادة ومسح جسدي وثقافي، وهي إبادة صارت عادية، بل إن السينما الأمريكية التي هي ماكينة طبّعت الناس معها… والناس يتحدثون عن الجيش، ولا يتحدثون عن هوليوود التي هي ماكينة الحرب الثقافية ضد ثقافة وحضارة الشعب الأصلي الذي سموه هنديا، وما سموها أمريكا التي صيّروها “لاتينية”.

لا توجد السينما فقط، بل الاستشراق كله. أحد أكبر المستشرقين زميلي الراحل برنارد لويس كان فيه دائما مشكل الدفاع الراديكالي البروباغاندي الانتقائي… ولو أنه عالم كبير له اطلاع كبير على تاريخ الشعوب العربية، لكن له انتقائية لا يمكن أن تنتبه لها دائما، لأن خطابه يظهر مبنيا علميا، وهذا خاطئ.

هذا شائع، فمثلا الجمعيات العلمية التي لعبت دورا كبيرا حول الشرق الأوسط والإسلام كانت تسيطر عليها شبكة برنارد لويس وأصدقاؤه في جامعات أخرى؛ وظاهرها العلم، إلى درجة أن العرب وغيرهم ممن درسوا عنده تشربوها.

كنت عضوا في بعض هذه الجمعيات، وكنت أرى هذا. والمشكل أنهم أعضاء جامعات عريقة، والناس من العالم الثالث يحبونهم، من عرب وغيرهم.

منذ كتابات إدوارد سعيد وغيره كان هناك جديد، لأنه كانت فيه منهجية جديدة، لها خاصية البحث بوسائل لغوية أخرى الفرضيات المبطنة في خطابِ مستشرقين، والفرضية المبطنة هي التفوق الأوروبي.

كنت أتحدث مع برنارد لويس، وكنا نجلس، مع فارق السن، وكان يسألني: قلي ميدانا تفوق فيه العرب؟ وعندما أقول له تفوقوا في الفلسفة والرياضيات والجغرافيا في وقت، وكانت الإنجليزية اللغة العالمية في وقتٍ… وأريه كتبا حيث كان البحث في الرياضيات، لم تكن بينها هوة وبين الرياضيات الأوروبية، لكنها زادت بعد ذلك، وكنت أقول له إن ما علينا البحث فيه هو هذه الهوة. ويوجد تاريخ الحروب بين أوروبا والبلدان العربية، والإمبريالية، فيقول لي هذا غير موجود.

كان برنارد لويس يسألني: هل اخترع العرب شيئا يشابه أو يمكن أن ينافس الموسيقى الكلاسيكية مثل موزارت وبيتهوفن؟ فأجيبه: لقد اخترعوا موسيقى أخرى، ولماذا تريدهم أن يخترعوا ما اخترعه سيباستيان باخ في بيئته؟! لكنه لم يكن يريد أن ينصت، حتى لو تحدثت معه عما يُستوحى في موسيقات أوروبية من العود العربي، وأن عليه تعلم الموسيقى ليفهم الأمر. لم أكن أقول له إن العرب سبقوا في كل شيء، لا بل سبقَنا من سبقنا، وعندنا ما عندنا… لكنه كان يغضب ويبدل الموضوع، ويعود بسؤال في جلسة خاصة أخرى، لأنه كان يريد البحث عن حاجة خاصة في العقل الأوروبي ولم يستوعبها المسلمون والعرب. وكنا نفترق على الأمر نفسه. هذا هو التعالي المبطن في أوروبا كلها.

بعد الحرب العالمية، والستينيات والسبعينيات، كانت هناك مناقشات، وتقدمات فلسفية، حاولت الدفع بشمول في زمن النضال ضد الاستعمار، ولكن بقي هذا الأمر مزروعا داخل العقل.

طبعا توجد تيارات أخرى اليوم مثل “الووك”، والجندر… ويحاربها اليوم تيار “اجعلوا أمريكا عظيمة مجددا”، لأنها داخلة في ثقافة التعددية. ويدافَع ويطبق الكيل بمكيالين صراحة من طرف التيار الجديد، بينما كان يمارسه برنارد لويس مبطنا.

في أوروبا الغربية، وخاصة ألمانيا، الفلسفة الأوروبية كلها تقريبا غرقت… وكبار الفلاسفة الألمان الذين أعرفهم مثل هابرماس يدافعون عن سكوت ألمانيا عن الإبادة، أو لا يتكلمون. صوت هابرماس مُسح، وقد كان يعد من كبار فلاسفة مدرسة فرانكفورت، وجاء من سلالة تقدمية مثل هوركهايمر وأدورنو، وقد غرق الآن وولّى.

يمكن أن نقول إن العقل الأوروبي أغرق نفسه، بازدواجية المعايير، أما في فرنسا فقد غرق أيضا، ولا يمكن أن نعدّ أمثال آلان فينكلكروت وبرنارد هنري ليفي فلاسفة، فليس لهم رصيد فلسفي، عكس الجيل الذي قبلهم مثل سارتر ودولوز. لكن هؤلاء هم الظاهرون تلفزيا، ويسيّرون الرأي، بما فيه الفلسفي، والآخرون باهتون، ومعهم معظم الإعلام، والأوساط التي استولت على الاقتصاد والسياسة، وهذه فاجعة.

الفكر الأوروبي، فكر إنساني مثل باقي الفكر، وكانت له عطاءات، لكنها تلاشت، وولّت. من سيثق اليوم بالفلسفة الأخلاقية الأوروبية مع هذا الكيل بمكيالين؟ لقد ولّت الثقة.

-اشتغلت، أستاذ حمودي، من داخل مؤسسات أكاديمية قلت إنه يطبَع العديد من مثقفيها حكمٌ مسبق حول مركزية مركزٍ وهامشية بقية العالم. لكن كانت لك من داخلها مبادرات مثل الدعوة للمقاطعة الأكاديمية لإسرائيل، وهو ما جاء في وقت لاحق لأنه بعد اتفاق أوسلو كان لك اتجاه أكبر نحو “التقريب” وما سمي سلاما دون حرمان الفلسطينيين من حقوق الإنسان. ما الذي قادك للدفاع عن المقاطعة المنهجية للمؤسسات الإسرائيلية بوصفها مؤسسات متورطة في المس المنهجي بحقوق الفلسطينيين من الحياة وصولا إلى الدولة المستقلة؟.

في كل حياتي لم أقبل الاضطهاد ضد فلسطين، بتحالف وتعاون مع القوة العظمى في القرن التاسع عشر التي هي بريطانيا، وبعدها أمريكا. لم أكن أقبل هذا فلسفيا منذ كنت تلميذا في الثانوي.

سؤالك مهم. عندما تعبت من الحياة الأكاديمية في المغرب، وقد كنت في المعهد الزراعي، وكان من المؤسسات التي تعتني بها الدولة أيام المرحوم الحسن الثاني، وتكونت فيه طبقة من الأساتذة، وكنا نشتغل بشكل جيد، عندما تقدم المعهد نفسه، وصار مثل جامعة لكل التخصصات المرتبطة بالزراعة، وتفوق. وفي زمن المدير عبد الله البقالي كان مديرا يفهم، ولم يكن يتكلم كثيرا، وكانت له مواقف تحترم الدولة، لكن تريد أن تقدم باتزان شيئا يخدم البلاد.

من بعد تلاشى هذا، وبدأ التضييق. وبعدما جاء الراحل الحسن الثاني لتقديم الشهادات للطلبة، وتشجيعهم والأساتذة، في مبادرة رائعة، وجدت في السنين الأخيرة أنه بدأ التضييق، وبدل الكلام على الإصلاح الزراعي صار الأمر تقنيا بالحديث عن الإصلاح الفلاحي، ولم يعد النقاش هو الإصلاح الذي يمكن أن يعم ويمكن أن يستفيد منه عامة المغاربة والمغربيات. وكانت مناظرة كبيرة مفتوحة، ونادوا علينا وعلى برلمانيين، واشتغلنا، وكانت اختلافات، وحاولنا الخروج بشيء لتقديمه لجلالة الملك، واستقبلنا وخطب فينا، وقال إنه أمر القرض لتمويل المشاريع الناجحة للإصلاح الفلاحي.

ثم بدأت المبادرات الموجهة، التي يشارك فيها مستثمرون في زراعات مثل الموز، وأتت شخصيات رسمية تحرص على زراعة معينة، وتغيرت علينا الأمور. وكانت لي علاقة مع جامعات أوروبية، وخاصة فرنسا وإسبانيا، وكانت لنا برامج مع بعثة أمريكية تسهر على برامج شابات وشباب يعدون أطاريح دكتوراهم. وكنت آتي لأمريكا، وتترجم دراساتي، وأستقبل دعوات في جامعة نيويورك وجامعة برينستون. في ذلك الوقت استقبلت دعوات من رؤساء شعب للتدريس بالولايات المتحدة، فقلت سأدرس فصلا معكم لأن أجرتي لا تكفيني، لكن أريد دائما العودة إلى المغرب، لأن هدفنا مع بول باسكون وآخرين كان تعليم المغاربة والمغربيات.

لكن، مع الضغط، وعندما لم تعد منح البحث مع الوزارات، وصارت توجّه إلى أناس آخرين، رغم بحثي في مشاريع من بينها مشاريع الوزارة الوصية نفسها، صار من الصعب إطاقة التهميش مع الوقت. فدرّست لفصل، ثم مع إلحاح وصدفة، بتزامن مع أوسلو، قلت إن الأمور قد تسير في اتجاه آخر، ولو أني لم أكن مطمئنا تماما لـ”أوسلو”، لكن قلت سيكون هناك ثلثا حق، أو نصف حق يمكن أن يطوره الناس، وسُمّيت في شعبة الأنثروبولوجيا وشعبة الشرق الأوسط.

بعد ذلك تبين أن “أوسلو” كانت مجرد مرحلة، وبدأ الاستيطان يتم باسمها؛ وجاء حزب الليكود، ثم بدأ ينقضي كل ما في أوسلو في واضحة النهار.

في شعبة الشرق الأوسط كنت أحضر بعد هذه المرحلة مناقشة ملفات أساتذة وأستاذات متفوقين في جامعات أخرى، لكن في الاجتماع كان يكون التصويت قويا، وأي أحد كانوا يشمون فيه ولو رائحة طلب العدل بين الفلسطينيين وإسرائيل لا يقبلونه، بوسائل شتى، فقدمت استقالتي من الشعبتين.

عندما تبين أن أوسلو كانت بمثابة الخدعة المرحلية، لخدمة هدف القضاء على الفلسطينيين، وهي الفترة التي كان فيها إدوارد سعيد ضمن لجنة منظمة التحرير الفلسطينية، وقدم استقالته مع آخرين، وكان الدكتور المحترم عبد الشافي في مناقشات كامب ديفيد. وتبين أن لمنظمة التحرير خطين أحدهما سري لم يناقش مع الفلسطينيين المسمين رسميا من المنظمة بوصفهم المخاطب، مثل مناقشات إسرائيل اليوم حول غزة، أي فريق لا صلاحيات له، وفريق له قوة دولة إسرائيل، فيمكن بذلك التملص من الاتفاقات، بحجة أن أولئك مناقِشون دون صلاحية أخذ القرار.

رئاسة الفلسطينيين، لأسباب ما لم تشعر، أو لا أدري… ولا أتهمهم بخيانة أو شيء لأن تلك هي السياسة. الأساس أن في “أوسلو” كانت بذرة الفشل، ولم نعٍ ذلك، لا أنا ولا أناس أكبر مني مثل إدوارد سعيد، ورأينا في البدايات أنه يمكن أن يكون خطوة أولى… لكنها كانت خطوة أولى لصالح خطوات أخرى إسرائيلية، والماكينة كانت مُعدة لطحن وبلع الفلسطينيين وأكثر ما يمكن من أراضيهم، والضغط عليهم، وسجنهم، وتعذيبهم، وخرق كرامتهم الإنسانية.

لما عينت رئيسا للمعهد الإقليمي ببرينستون لمدة عشر سنوات أعطيت القضية الفلسطينية علنيا الأولوية، في المحاضرات واللقاءات المنظمة. ومثل المغرب، ما أفكر وأؤمن به أقوله علانية في أمريكا، فغيرت رأيي ولم أعد مع أوسلو، وهو ما ظهر في برامج المعهد عبر الإقليمي.

– منذ بداية الحوار، أستاذ حمودي، تكرر حديثك عن “الإكراهات” وتفهمها. نرى في المغرب في السنة ونصف السنة الفارطة آلاف الاحتجاجات في مختلف المدن، وفي الوقت نفسه يُطرح سؤال الجدوى. من جهة، الرأي العام العالمي وصلته حقيقة الصراع على الأرض، لكن في الوقت نفسه يصطدم هذا بتجويع مستمر حاليا دون قدرة على إنقاذ أطفال عمرهم أيام يقتلون جوعا، ولا أحد يستطيع إنقاذهم ممن يرفعون أصواتهم ضد هذا. كيف ترون هذا التقابل بين الصوت المحلي المحتجّ في كل دولة من الدول والواقع المفروض من طرف القوى الكبرى للعالم، أو من لهم قدرة فرض رأيهم ورؤيتهم في العالم؟.

أتفق معك، على استفسار ما بين القدرة والإكراهات. وفي مستوى العلاقة بين الدول طبعا الدول المهيمنة مازالت هي أمريكا وأوروبا. وهناك دول أخرى لها قوة، وصارت تتقاسم الهيمنة مع أمريكا، وهي الصين خصوصا، وقبلها روسيا، لكن الصين قوة شاملة. كما أن هناك دول البريكس ذات الوزن. لكن مازالت أعظم قوة عسكرية وأكبر سوق اقتصادية هي أمريكا، وفيها توجد الأموال التي تمكنها من شراء العالم بأكمله.

سوق أوروبا وأمريكا هو الذي يسهم حتى في نمو الأسواق المناهضة مثل الصين، ومازال الدولار هو العملة.

عندما أتحدث عن الإكراهات حول المغرب أو غيره فإن القوة الاقتصادية والعسكرية والثقافية مازالت الولايات المتحدة ولو تراجعت؛ وقد كانت قمة عزها في الخمسينيات والستينيات، ومن ثم يُفهَم شعار حملة ‘الجمهوريين’ “لنجعل أمريكا عظيمة مجددا”، هي نوستالجيا… لها الجو، والأرض، والبحر، لكن لا تستطيع القيام بالكثير في بحر الصين، أو البحار الآسيوية بين اليابان وسيبيريا.

في المغارب مثلا لنا أمور تعطينا مكانة في التفاوض سياسيا واقتصاديا، وهو هامش يمكن استعماله، ويظهر لي أن استعماله بطيء أو أنه هامش غير مستعمل في أمور من بينها الموقف من فلسطين؛ فعاهلنا مثلا هو رئيس بيت مال القدس، والصندوق يقوم بأمور مثل التعاون والإعانات العلنية والسرية. لكن في مرحلة وصول الحرب إلى تجويع شعب بأكمله فإن الصمت كبير جدا. وتوجد مظاهرات، ما يعني أن هذا يتناقض مع مشاعر الشعب.

أنا لا أبحث عن أي فرصة للتبخيس، فأنا أؤمن بأن المؤسسات ينبغي أن تساير شعور الشعب، وخصوصا في هذه القضية. أشعر بالإكراهات، ويمكن أن أتفهمها، وسبق أن كتبت تفهمي ما يقتضيه الحفاظ على الوحدة الترابية، ومحاولة المؤسسة خلق نوع من التكافؤ في التسليح بوسائل أخرى لأنه ليس لنا بترول، ولا يمكن أن نخترعه، ولا أقبل أن نهدد في وحدة بلادنا. لكن، أقول إن للشعب المغربي مكونات، وإنه سيتطوع كله للدفاع عن الحدود والوحدة الترابية إذا حدث ما يمسها. لكن توجد هوامش حتى لا يبقى هذا الصمت المطبق على ما يحدث في فلسطين، الذي له آفاق عالمية، لا محلية أو قطرية أو جهوية فقط، فهي قضية العالم الآن، ولو لم يرد البعض الاعتراف بها، ومنها يمكن أن تتفرع أمور خطيرة بالنسبة للحروب المقبلة، وفي ما يتعلق بانهيار المعايير الأخلاقية في الحروب، انطلاقا مما هو ظاهر في حرب إسرائيل على غزة. وهذا خطير على مستقبلنا، ومستقبل الشعوب الأخرى.

– بمثل هذا النّبْرِ. يوجد ما يقود للأمل مثل اليقظة الكبيرة في الرأي العام العالمي في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا مثلا، من طلبة ومجتمع مدني. لكن، يوجد ما يقود لليأس مثل الهيمنة الفائقة التي تزيد وتلتهم حتى مساحات الحرية الداخلية في دولٍ غربية، وتلتهم حتى أبناءها وحقهم في الرأي والضمير والدفاع عن حقوق الإنسان. ما شعوركم تجاه هذا الواقع؟.

توجد محاولة فرض واقع جديد يقتل الرأي، وباستعلاء وفي واضحة النهار: يقتل ويقول أنا أقتل، يجوّه ويقول أنا أجوّع.

لكن، أريد أن أقول إن الشعوب والأنظمة في اختلافٍ، لا عندنا فقط، بل لدى الشعوب كلها التي تشعر بحاجة النضال ضد هذا الواقع الجديد، بالوسائل المشروعة. ولا ينبغي أن تتخطى المعايير الإيتقية (الأخلاقية) التي خطتها القوى العظمى وإسرائيل. فيوجد هذا التناقض الكبير بين شعوب ما كان يسمى العالم الثالث، ويسمونه الآن الجنوب العالمي.

قضية فلسطين تظهر التناقض أيضا بين الشعوب العربية وأنظمتها. والهجرة العالمية بهذه الدرجة من كل الجهات إلى كل الجهات شيء جديد، ففرنسا مثلا صارت شَعبا عالميا، والفرنسيون يسافرون إلى أين أرادوا، وغير الفرنسيين رغم الفرق الاقتصادي يذهبون ويستقرون في أوروبا رغم القمع والحدود، ويرتبطون بالبلدان التي جاؤوا منها، وقضاياهم، ولا يمكن القضاء عليهم في باريس ولندن، وغيرها من العواصم، ومنهم من تعب من أوروبا وعاد، حتى في حالة المغرب رغم الصعوبات. وهذا مكون أساسي للعولمة.

في أوروبا يظل هامش ديمقراطي، رغم محاولات القوى اليمينية والتسلطية؛ فالتسلط لم يعد كما كتبت عليه في المغرب، فقد تطور بدوره، ونحاول الآن فهم التسلط الجديد بأمريكا، مثل أن ترامب يكلف اليوم فقط مقربيه في مهام، مثل صديقه في الأعمال ويتكوف، الذي تفوق مهامه عمل وزارة الخارجية الأمريكية، وهذا أمر ليس مثل السلطوية المغربية أو الجزائرية، لكن هناك أمورا تتشابه.

أكبر المظاهرات مع فلسطين نظمت في أوروبا، مثل مظاهرات لندن والدانمارك. وتابعت مظاهرات في برلين فيها ألمان ومجنّسون، ما يعني أنه خُرق المنع الذي كان يتَّهم بمعاداة السامية كل حديث عن كل ما فيه يهود وإسرائيليون. لكن، في لندن تابعت اعتقال إنجليز من أصل إنجليزي لحملهم علم فلسطين. وفي أسكتلندا عندما ذهب ترامب للغولف وجد نفسه وسط مظاهرات، بمشاركة أناس كثيرين، تطالبه بالرحيل.

الاختلاف ما بين الشعوب وأنظمتها يوجد أيضا في أوروبا وأمريكا، حيث يتظاهر الناس، وتحضر الشرطة والعسكر، ويطالب أمريكيون بإنهاء الموقف الأمريكي إزاء الحرب، التي تفرضها إسرائيل بمساندة أمريكا، على الفلسطينيين.

الواقع الجديد الذي يتبلور اليوم ينبغي أن نراه محليا وحول الكرة الأرضية، وفيه جوانب تفند التصنيفات المفروضة. ويمكن أن يأخذ المغاربة والمغربيات العبرة من هذا وأن ينتفعوا منه، دون قول إن هذا في ثقافةِ آخرين، وإن لنا واقعنا، فواقعنا وثقافتنا يتغيران أيضا من الداخل والخارج.

توجد مرحلة جديدة من النضال والواقع والسياسي، وأقول في هذا الإطار إن مظاهرات الرباط لها شعارات أتفق معها لكنها ينبغي أن تخرج من العمومية، ولا تكتفي بقول “الشعب يريد إسقاط التطبيع”، بل أن تقول للمسؤولين ما تريده بالضبط، فَهُم مكون من المجتمع، ولا أقول إنهم كل المجتمع وكل قواه، لكن ينبغي أن يكون ما يصبو إليه النساء والرجال في مظاهراتٍ ضخمة مسموعا، وأن تبدأ المناقشة في إحقاق أشياء في الواقع، وأن يتحمل الناس مسؤوليتهم.

قرأت تصريح محمد عبادي، الأمين العام للعدل والإحسان، الذي يتحدث فيه عن المسؤول عن التطبيع، وما أقوله هو إن الصمت ينبغي أن يكون له حد في حرب الإبادة والتجويع.

وينبغي أن يتجاوب المسؤولون ويتناقشوا علنيا، وتكون نتائج في أرض الواقع تجاه التطبيع، لأن وجود الحرب الجديدة لا يطاق أخلاقيا وإنسانيا.

أقول هذا دون أن أطلب نظاما آخر، بل أطلب الله أن يكون نوع جديد من التعاقد الاجتماعي، مع أن معنى الكلمة تقادم قليلا، حتى يجد الشعب بطبقاته قدرا من نفسه في السياسات العمومية، وخاصة الخطاب الرسمي والسياسات تجاه القضية الفلسطينية؛ لأنها قضية العالم اليوم.

في هذا الوقت إٍسرائيل كدولة وكحزب حاكم تريد أن تشطب على وجودك. لا أقول كل اليهود، بل إسرائيل بوصفها دولة جديدة، حديثة، بآلياتها التي تأتي بتأويل خاص بها للديانة اليهودية، وهو ما يقوله لها يهود “ناطوري كارتا” مثلا، ومثقفون كبار في إسرائيل وضد إسرائيل، ومظاهرات يهود يقولون “ليس باسمنا” ضد ما تقترفه باسم ديانتهم إسرائيل. بل بلغنا أمرا جديدا كثيرا، حيث قرأت في “نيويورك تايمز” مقالا يقول إن اليهود ليسوا على فكرة واحدة اليوم.

قرأت ما كتبه السيد علي بوعبيد وأحترم ما يكتبه، وقرأت تعليقك الرائع حوله، ولا أقول هذا مجاملة. لكن أقول على أي حال ينبغي أن تكون حرية الضمير للجميع، للمغاربة اليهود والمغاربة المسلمين والمغاربة العلمانيين أو من لهم قناعات فلسفية. ومن لا يريد أن يتكلم لن أقول له سندخل ذهنك، ولا بد أن تتحدث. فحتى المسلمون منهم من لا يتحدث، منهم فقهاءٌ ومنهم أناس من عامة الشعب، وغيرهم، ولن نهددهم بالسجن أو الإبعاد إذا لم يتحدثوا.

المهم هو أن الناس الذين يدعون ضد المغاربة كمغاربة ينبغي أن نحاربهم بالقلم، وبالدعاية المشروعة، وبالأفكار، ما عدا من يتعامل مع دولة أجنبية مثل إسرائيل ضد مصالحنا وضد دولتنا. أما أن يتكلم أو لا يتكلم فأمر آخر.

في النضال من أجل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني علينا فتح القنوات مع التيارات اليهودية المناهضة للصهيونية، والحوار العلني والمفتوح دون محاكم تفتيش مع المغاربة اليهود القادمين من إسرائيل أو القاطنين بالمغرب.

لا يمكن أن ترى مظاهرات اليهود في نيويورك، وأن لا تقابلهم وهم يطالبون بتقرير مصير الشعب الفلسطيني. ينبغي أن تفتح القنوات، لكن بشكل واضح.

قرأت عريضة بالعربية لمثقفين مغاربة، وهذا أمر جيد؛ فكلما تعددت الأصوات فهي جيدة. المسألة الفلسطينية يتجاوز أفقها الانتماءات السياسية، لأن أفقها جديد، ومن أراد النضال مع حزب أو نواة حزب فلا إشكال. لكن القضية تتجاوز التصنيفات، وتهم مستقبل الكرة الأرضية كلها. فلا ينبغي أن ننسى أن إسرائيل مسلحة نوويا، وحظر السلاح النووي محتكَر، ويحفز دولا أخرى على امتلاك السلاح النووي، كما حدث مع الهند وباكستان وكوريا الشمالية، واليوم تحاول وستنجح في ذلك دول أخرى. وهذه خطورة كبيرة. كما رأينا أن الحرب الإسرائيلية على إيران لم تكن معلنة، ولم يكن نقاش حولها في الأمم المتحدة، في خرق للقانون الدولي، وواقع جديد.

أعود إلى سؤالك الأول حول التجويع. قرأتُ في الصفحة الأولى من “نيويورك تايمز” أن عسكريين إسرائيليين يقولون إنه لا أساس لما تقوله الحكومة الإسرائيلية حول سرقة ‘حماس’ للإعانات، بل إنه تحت إشراف الأمم المتحدة كانت الإعانات معممة وآمنة وأحسن بكثير وتوزع في أماكن وجود الناس لا على بعد كيلومترات.

أمام الآن فنحن أمام مصائد تقتل الفلسطينيين من البحر والجو والأرض ورصاصٍ أمام مؤسسات، بتعاون بين أمريكا وإسرائيل، تضع أماكن مخصصة للإعانة الإنسانية كما يسمونها، ولكنها في الحقيقة مصائد للجياع، فيها مرتزقة أمريكيون، وتحرسها قوات إسرائيلية، تقصف بالرصاص، فتصير فوضى، لتحمّل المسؤولية للفلسطينيين كذبا، وهذا كذب يبنى عليه كذب، وتبنى عليه منظومات تراجيدية تعدم الفلسطينيين في الأخير.

هذا هو التجويع، الذي لا يطال الأطفال والنساء والرجال فقط، بل أطر المستشفيات أيضا، الذين لا يتعدون وجبة في اليوم إذا توفرت، وهذا مؤشر على الانهيار، فالمستشفيات كلها مخربة بالقصف الجوي، والعسكر الإسرائيلي على الأرض دمر الأدوية والأدوات الطبية، ويمنع دخول الإعانات الدولية. هذا قضاء بيولوجي على شعب بكامله، فإذا انهارت الأنظمة الصحية والأطر الصحية فلا أحد يمكنه إنقاذ الشعب الجائع ومداواته.

ما أقوله هو: صور البحث عما يسد الرمق لا تحط من كرامة الفلسطينيين، بل تحط من كرامة من يسهرون على ذلك من أمريكا وإسرائيل. ومحاولةُ القضاء البيولوجي على الشعب الفلسطيني بغزة شيء جديد، ومحرقة عمومية بمعنى الكلمة، تطرح علينا سؤالا حول مواقفنا كلنا، لا موقفِ نظامٍ فحسب. وعلينا البحث عن طرق أخرى للتعبير اليومي السلمي عنه، في الشارع وغيره.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق هيفاء وهبي بفستان زيبراني أخضر في حفل زفاف يومي بيوتي
التالى نقابة الصحفيين المصريين تجدد إدانتها للجرائم الوحشية للعدوان الصهيوني في غزة