نمو وزخمٌ “غير مسبوقين” يبصَم عليهما تطور مبيعات الإسمنت في المغرب، المؤشر الأساس لقياس مدى نشاط قطاع البناء والأشغال العمومية؛ بتسجيل شهر يوليوز 2025 لوحده ارتفاعاً ملحوظاً للمبيعات بنسبة 17,57 في المائة مقارنة مع الشهر نفسه من السنة الماضية.
وحسب معطيات رسمية واردة في مذكرة لوزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، اعتمادا على بيانات “الجمعية المهنية لشركات الإسمنت”، فقد بيعَتْ بالمغرب نحو 1,39 مليون طن من الإسمنت؛ في مؤشر عاكسٍ لدينامية متزايدة في القطاع خلال هذا الشهر تحديداً، الذي يشهد تسريع عدد من الأوراش الكبرى، فضلا عن أشغال “الصيانة الدورية” المعتادة لمجموعة من البنيات التحتية الأساسية، في مجالات الرياضة والطرق والتجهيزات العامة.
المذكرة ذاتها، التي اطلعت هسبريس على نسخة منها، أبرزت أن مبيعات الإسمنت نمَت مع نهاية شهر يوليوز المنصرم لتصل إلى ما مجموعه 8,28 ملايين طن، مسجلة “زيادة بنسبة 11,03 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2024”.
وحسب الفئات، يتصدّر الإسمنت “الموجّه للتوزيع” بـ4,57 ملايين طن، يليه الإسمنت “المخصص للخرسانة الجاهزة للاستعمال” بـ2,04 ملايين طن، ثم الإسمنت “الخاص بالخرسانة المعدّة مسبقاً” بـ852.022 طناً، و”البنية التحتية” بـ538.708 أطنان؛ بينما استهلك قطاع البناء 236.198 طناً فقط، ثم “الملاط” بـ37.478 طناً.
ويترسّخ معطى نمو مبيعات واستهلاك الإسمنت بما أكدته مديرية الدراسات والتوقعات المالية، في مذكرتها الشهرية الأخيرة حول الظرفية، عن “تناميها بنسبة 9,8 في المائة” خلال النصف الأول من سنة 2025.
وتُثبت البيانات الرسمية أن قطاع البنية التحتية من العناصر الحاسمة في دينامية القطاع بالمملكة، مسجلا ضمن حصة التسليمات التي تلقّاها نسبة نمو بزائد 6,4 في المائة، مدعوما أيضا بـ”تعزيز عمليات التسليم في قطاعات الخرسانة الجاهزة للاستعمال (زائد 19,2 في المائة)، والتوزيع (زائد 6,1 في المائة)، والخرسانة المعدة مسبقا (زائد 17,7 في المائة)”.
زخم “غير مسبوق”
يؤكد إدريس الفينة، المحلل الاقتصادي المختص في قطاع العقار، أن نسبة النمو أو الأحجام المسجلة من مبيعات الإسمنت، كأحد أبرز مؤشرات قطاع البناء والأشغال العمومية، لم يَشهد لها المغرب مثيلًا منذ سنوات 2004 إلى 2006 في عهد “حكومة جطو”؛ مؤكدا أن “الأرقام خلال الأشهر السبعة الأولى من السنة الراهنة تعدّت أرقاما سابقة خلال الفترة نفسها.. وهي أرقام حقيقية وليست تقديرات، يسجلها الاقتصاد الوطني، تسير في منحى تصاعدي منذ عامي 2023 و2024”.
وأضاف الفينة، ضمن تصريح لجريدة هسبريس، أن “الانتعاش العام لقطاع البناء والأشغال العمومية لا يمكن أن تخطئه أعين مهنيي القطاع ومتتبعيه”، شارحا أنه “مبني على ركيزتيْن: البناء الذاتي (سواء الأفراد أو المقاولون، وحتى دينامية إصلاح المنازل)، فضلا عن الأشغال العمومية والبنيات التحتية التي شهدت قفزة قوية منذ بداية السنة الجارية”.
ولفت الخبير الاقتصادي ذاته إلى أن “200 مليار درهم تقريباً وُجّهت نحو الاستثمار في الأشغال العمومية من أصل ميزانية الاستثمار العمومي التي نمت بدورها لتصل إلى 350 ملياراً”، وقال معلقا إن “اقتصاد الأشغال العمومية يتحرّك بشكل جيد (…) ويثبت توفر الحكومة الحالية على رؤية ومخطط دقيق لمواكبة القطاع، وليس فقط تعبيرا عن دينامية الأشغال الجارية في أوراش الكان والمونديال أو البنيات التحتية للقطاع الرياضي”، مشيرا إلى أرقام مندوبية التخطيط (مذكرة التشغيل للفصل الثاني) التي تؤكد إحداث البناء والأشغال العمومية 53 ألف منصب عمل في الربع الثاني 2025.
وتابع المتحدث ذاته: “الأمر لا يتعلق فقط دينامية تسارُع الأوراش الكبرى وأشغال الملاعب والتجهيزات الرياضية المرافقة، بل استهلاك الإسمنت مُعبر أيضا عن دينامية تشييد جارٍ لعدد من السدود والموانئ الجديدة، فضلا عن إعادة بناء وإنهاء تأهيل مناطق زلزال الحوز… إضافة إلى المطارات وأشغال جارية لإعادة التهيئة الحضرية في عدد من المدن”.
“هذا أعطى القطاع زخماً قويا وغير مسبوق. وواضحٌ أن نمو مبيعات الإسمنت يواكب جنيَ ثمار خطة حكومية دقيقة وإستراتيجية لتحريك الأشغال العمومية، بعد أن عرفت الفترة ما بعد 2011 تراجعات في استهلاك الإسمنت إلى مستويات منخفضة”، يورد الفينة، وختم متوقعاً أن “يسجل المغرب حصيلة 15.2 مليون طن كمبيعات للإسمنت في نهاية السنة الجارية، على أمل أن نتجاوز في 2026 حاجز 16 مليون طن الذي يبقى الرقم القياسي المسجل عام 2011”.
“دينامية تقتصر على الأوراش”
من جهته بسَط أنيس بنجلون، خبير في قطاع البناء ومهني في الإنعاش العقاري، توضيحات أساسية لفهم العلاقة بين ارتفاع استهلاك الإسمنت وواقع القطاع العقاري.
وقال بنجلون لهسبريس: “رغم الارتفاع المسجل في استهلاك الإسمنت، الذي بلغ 8,28 مليون طن إلى غاية نهاية يوليوز 2025، لا يمكن اعتبار هذا المؤشر دليلاً حاسماً على انتعاش القطاع العقاري السكني، لأن استخدام الإسمنت لا يقتصر فقط على بناء الشقق والمساكن، بل يمتد إلى مشاريع البنية التحتية الكبرى، مثل الطرق، والمستشفيات، والملاعب، والمؤسسات العمومية، وغيرها من المشاريع المهيكلة التي يشهدها المغرب حالياً”.
لذلك فإن “الزيادة في استهلاك الإسمنت قد تعكس بالأحرى دينامية في الأوراش العمومية أو البناء غير السكني، دون أن تعني بالضرورة وجود طفرة في بناء أو بيع الشقق السكنية”، بحسب المصرح.
وفي هذا السياق “يظل المعيار الحقيقي لقياس دينامية السوق العقارية”، وفق تقدير الخبير ذاته، وهو نائب رئيس الفيدرالية الوطنية للمنعشين العقاريين، هو “عدد الشقق التي تم الترخيص لها من طرف السلطات المختصة”، وكذا “عدد الوحدات السكنية التي تم تسليمها فعلياً، أي تلك التي حصلت على رخص السكن، وعدد الشقق التي تم بيعها فعلياً في السوق”.
وخلص المتحدث، بالتالي، إلى أن “أيّ قراءة موضوعية لوضعية القطاع بالمغرب يجب أن تنطلق من مؤشرات دقيقة ومباشرة، وليس فقط من استهلاك الإسمنت أو حجم القروض، لأنها مؤشرات غير كافية بمفردها لتكوين صورة واضحة”.