تقديـــم
إذا كانت إشبيلية هبة “الوادي الكبير”، الذي يخترق سهول لافيغا، حيث يجري ببطء ليصب في المحيط الأطلسي غربا، على بعد 70 كلم، فغرناطة هي المنبع، ترتوي من العالية مباشرة الماء الزُلال. إنَّها باختصار بنتُ الجبل على مرمى حجر من جبال البوشارات التي تأتي في خصر سلسلة سييرا نيفادا. وكما هو معلوم ومؤكد فبالجبل تتم تصفية النفوس؛ فتبدع هكذا أحلى إبداع، وتقاوم إلى آخر نفس. يرتبكُ الإنسان، حقيقة، وهو بغرناطة لأن المدينة تُظهر القليل وتُخفي الكثير وراء الحيطان والأسوار، ما يُفتن النّفوس ويُنَوِّم العقول. فتحصل الدَّهشة الكبرى كلما أُزيل الخمار واللِّثام والسِّتار، لتنكشفَ الأسرار.
1- من ألغاز غرناطة.. قصر الحمراء
يقتنع الزائر، من الغرب ومن أبناء جلدتنا نحن، بأن أزمة الحداثة التي أصابت المجتمع الغربي وتُصيب العالم الإسلامي في المقتل، لا يمكن تجاوزها إلا بدروس من الأندلس، بمظاهرها السلبية كتطاحن الإخوة الأعداء ملوك الطوائف، وبجوانبها الإيجابية والمُشرقة مثل نموذج غرناطة الحالمة المتيمة بالثقافة والفن. وما يُدهش الكل هنا بغرناطة هو الشَّوق لدخول قصر الحمراء والسَّعي إليه على استعجال. يتحمل الإنسان عناء السفر من أجل نظرة أخيرة على إبداع لا يُرى إلا من الدَّاخل فقط. لقد فطن زعماء العالم الجديد والقديم، من علماء وأدباء، مبكرا لهذا الصرح الشَّامخ، قَدِموا لاستلهام روحه، حتى لا يذهب ريحهم، ويصيبهم ما أصاب عادَ وتَمود.
وصدِّقوني القول، هذه ليست مبالغة وليس انبهارا مرة أخرى بالأقواس وبجنة العريف، وبهندسة مائها العجيب، إن العالم بأسره يقف بفضاء الحمراء وينحني احتراما للمرجعية الإسلامية المُلهمة، وللصناع والفنانين باختلاف مللهم ونحلهم بحيث التفُوا حول مشروع ابتكار الجزئيات في إطار كُلِّي وشمولي من دون إقصاء.
غرناطة مدينة إسلامية روحا، ومنهاجا، ولغةً، ربما لأنها سقطتْ عام 1492م، أي 244 سنة بعد سقوطِ إشبيلية (1248م)، و256 عاما بعد سقوطِ قُرطبة (1236م). فالمدينة تتنفس هذا الإرث الغنِّي. ويعتبر قصر الحمراء قمَّة القِمم في الحُسن والبهاء، ودُخولُه أصبح اليوم من الأمرِ الصَّعب نظرا للطَّلب العالي على تذاكر الدخول. وحاولتْ إسبانيا الكاثوليكية بناء -من جهتها- ما يمكن أن يُبهر. وحاولت فعلا، لكن ما قام به بنو الأحمر خارقٌ للعادة لا يُمكن استنساخه. والغريب هو قدوم الزّوار في السنوات الأخيرة من أمريكا، واليابان، وأستراليا خصيصا لرؤية قصر الحمراء كإنجاز بشري فريد. ويرجع الفضل كذلك لإيزابيلا الأولى التي سقطت في حُبِّ هذه المعلمة بل وقفتْ في وجه كل من حاول تدميرها ومحوِ معالمها. وتركتْ عند وفاتها الوصيَّة لأحفادها، كما أوصتْ بضرورة الحفاظ على المعالم الأندلسية، وهي التي شاركت في طرد المسلمين صُحبة زوجها فرناندو الثاني.
وأبدع الأندلسيون بشهادة الغير، شهادات مُدونة حاليا في دلائل السِّياحة بشكل واضح. ومازالت أمور لم يتمكن خبراء الآثار وهندسة المياه من فك أسرارها وطلاسمها. وهكذا فالسَّاحات العمومية بغرناطة المعاصرة ما هي إلا اقتباس في اقتباس. ويستشعر مُستعملو هذه السَّاحات المنتشرة وسط المدينة بالانتعاش صيفا وبالارتياح شتاءً، تحت تأثير المكان وهديل الحمامِ. وينبسط الشَّباب الغرناطي فيواصل العزف على القيثارة في انتظار تحقيق أغلى الأحلام. وما يشغلُ بالهم هو تواجدهم في مدينة “أسطورية”؛ جمعت في ذاكرتها الشرق والغرب. سينهال شاعر إسبانيا الكبير فيديريكو غارسيا لوركا (1898-1936)، منها ومن عمق الأراضي الأندلسية، أعذب القصائد وروائع المسرحيات.
وتبرز في غرناطة مظاهر الأندلس الإسلامية وفي مقدمة الرموز يمكن الوقوف على الخط العربي، والهندسة المعمارية المتجلية في الدُّور المصحوبة بحدائق كارمن (Carmen) ورائحة التوابل والأعشاب المنبعثة منها، والأقواس، والسَّواقي، والحمامات، والأبراج. طورت هذه المدينة من تقنيات الرَّي والفلاحة، ومن آليات البناء وإعداد الخرائط. تبحرت كذلك في الفلك، الهندسة والطب، وازداد تعلقها بالشِّعر والفكر عامة.
تُبدي غرناطة حاليا استعدادها للبوح، إلا أن السائح الفُضولي لن يأخذ منها غير القليل، ولا تنفع معها اللغة الإيحائية لاستمالتها. يعد الزَّائر إليها العُدَّة ويأخذ الزَّاد الكافي من المعلومات -من الكتب التاريخية، ومن الشبكة العنكبوتية-، وميدانيا يقوم بزيارات مُبكرة وليليةٍ لكل المعالم الأثرية، إلا أن غرناطة لا تبوح إلاَّ بإشارات مُشَفَّرة من خلف حجاب.
يمكن بلوغ قصر الحمراء عبر حي البيازين التاريخي. وتُشْعِر الأزِّقة الضَّيقة والملتوية الزائر بحرارة الأمكنة، على غرار المدن الإسلامية العريقة. ونعتقد بأن هذه الجزئيات مفصلية فهي التي تُبهر الغرب الذي ملَّ الشَّوارع الواسعة، والخُطوط المستقيمة، والنوافذ المربعة والأبواب المُستطيلة، والسَّيارات الملوثة. ولا تفوتُنا هنا الإشارة لما كتبه باحثون غربيون في هذا الباب، خاصة المهندس المعماري كاميلو سيتل “Camillo Sittle” وآخرون، والذين اعترضوا على الخطوط المستقيمة، عند تأسيس المدينة وتوسيع شوارعها. وقال المهندس سيتل صراحة ما مضمونه: “مستحيل أن يكون للعمارة قيمة وحضور بالخطوط المستقيمة”، لأنها تقتل الإبداع باسم الانتصار للسَّيارة. وفي هذا السِّياق لا يمكن أن نغفل أشعار بودلير وغيوم أبولينير عند استشعارهم الخطر المُحدق بباريس التي فتحت شوارعها على المجهول باسم التطور. ولهذا فاستعمال السَّيارة بغرناطة غير مرغوب فيه، اضطرت معه المصالح البلدية لغلق الكثير من الممرات وفتح البعض منها فقط للنقل الجماعي؛ عربات سياحية مخطط لها للوقوف بجانب الفضاءات العامة على وجه التَّحديد. هذه العربات السِّياحية مُبرمجة لتقديم خدمة التعليق على كل المآثر التاريخية التي يمر عليها السائح باستخدام ما يزيد عن 16 لغة. يوجد مع ذلك من الرُّكاب من يطلب خدمة التَّعليق بلغة لا تخطر على بال أحد. ويُطالب المسؤولون عن تدبير القطاع السِّياحي والثقافة بالمدينة بتوفير الخدمة الدائمة بجودة عالية؛ فالمداخيل المحصلة، هي تحصيل حاصل.
تنزل العربات من قصر الحمراء للمدينة مُحاذية للسواقي، وتدخل حي البيازين العتيق ومسالكه المنعرجة عبر زقاق “العقبة”، وتقطع الجسور الشامخة الرابطة بين المنازل على جنبات الوادي، وما أكثر القناطر التي دُمِّرتْ. ومازالت الكثير من المآثر صامدة محافظة على سحرها رغم ما تعرضت له من تغيير قبل أن يقتنع جميع المتدخلين بروعة المكان، فأصبح قصر الحمراء وجنة العريف والبيازين منذ سنة 1984 تُراثا عالميا معترفا به. ويحسب السائح نفسه، وهو يزور غرناطة، وكأنه يقوم بجولات بمدن المملكة المغربية: بفاس، تطوان، أو شفشاون.
2- ملاحظات من قلب الفضاء العام الغرناطي
يحتاج مجسم إيزابيلا وكريستوف كولومب المُنتصب في وسط المدينة لقراءة جديدة حتى نفهم سياق الاتفاق التي تم بينهما بحيث يؤسس العقد لنهاية العصور المُظلمة بأوروبا وبزوغ أضواء عصر النهضة والأنوار، وفي الوقت نفسه، يُؤرخ بحسرة لسقوط غرناطة عام 1492م. تسلمت إيزابيلا في هذه السنة المفاتيح من محمد الصغير (Boabdil)، وفي العام نفسه، سلمت هي الأخرى ما يكفي من المال لتمويل المغامر كريستوف كولومب. تسلم هذا الأخير الخرائط والبوصلة، واصطحب معه الكفاءة الأندلسية المختصين في الملاحة ليبحر مكتشفا العالم جديد. بيَّنتْ الدِّراسات التاريخية بأن الأندلسيين كان لهم الفضل في هذه الكشوفات، مشاركين بذلك بطريقة غير مباشرة في التطور الذي عرفته أوروبا، بالنظر للتراكم المعرفي الذي اختمر على مر السنوات. إن التدافع الذي كان موجودا بغرناطة وقتئذٍ بين الأجناس ساعد حتما على ظهور التخصصات النادرة وأدى لفيض من الابتكار والإبداع.
وعندما اشتدَّت المُضايقات على الأندلسيين منذ سقوط غرناطة، جاء التطهير العرقي الذي قامت به محاكم التفتيش زمن الملك فليب الثالث، بصدور القرار المشؤوم سنة 1609م، فَطرِد المورسكيون، يهودا ومسلمين، تاركين الكُتب والأراضي والسَّواقي والبيوت، والتجؤوا للمغرب على وجه الخصوص، وتفرقوا على طول سواحل المتوسط، ونزلوا لسواحل أمريكا الجنوبية على دفعات، والباقون تكيفوا مع الوضع وانصهروا. يفتخر الأندلسيون بإسبانيا اليوم بانتمائهم لهذه الثقافة ويفاوضون بكل الطرق السلطة المركزية بمدريد وبإقليم الأندلس، لإبراز معالمها في الفضاء العام بشكل صحيح.
يلاحظ الزائر وهو يتجول في قلب المدينة يوم الوصول، عبر الشوارع ووسط الخضرة والماء في عز فصل حار، حضور ملفت للإنسان المُسن في الفضاء العام. يمشي المسن وحيدا وغالبا مثنى وثلاث وعلى شكل مجموعات صغيرة، رجالا ونساءً، بخطوات خفيفة وبإشارات محتشمة، وبهمسات لا يعرف حكمتها إلا الطيور المغردة على الفروع المائلة. بإسبانيا مازال الوضع الديمغرافي غير مقلق كمعدلات عامة، غير أن المنعرج في الطريق؛ فنسبة السكان من فئة 65 وما فوق تمثل 20%. ومنطقة الأندلس رغم ظروف البطالة في صفوف الشباب، مازالت وَلاَّدة. ويصل حاليا معدل المسنين بمدينة غرناطة إلى % 19، محققة المرتبة الأولى في الأندلس.
يتحرك المسن ويتكلم، يتنفس، وتتغير ملامحه. فقسمات وجهه تعبر عن الرضا ليس فقط بوجود الفضاء الخاص، ولكن بوجود المرافق الطبية والاجتماعية، والطقس المشمس الجميل، والأهم وجود ثقافة الاعتراف بثقافته. يتوقف المسن ليجلس على كراسي بجودة عالية ثبتت بعناية على جنبات ممرات الحدائق. كما يلاحظ تخليد أسماء الذين رحلوا من الذين قدموا الخدمات الجليلة للمجتمع. فالأسماء مدونة ومحتفل بها، وتماثيل بعضهم منتصبة، تمثيل المرأة والرجل على حد سواء.
قد يكون لإدراك المسن قول آخر، لكن أنقل لكم المشاهد، فالموضوعية نسبية في العلوم الاجتماعية والإنسانية بشهادة ميشال فوكو. تؤخذ الانطباعات من أفواه المعنيين بالإنصات المباشر إليهم، حتى تكون الصورة قريبة من الواقع. والعينات التي صادفناها عبرت عن الخطوات التي قطعتها إسبانيا بعد الحرب الأهلية 1936- 1939، ومرحلة فرانكو وما ترتب عنهما كهجرة العديد من الإسبان لفرنسا وللعالم بحثا عن العمل أو كطالبين للجوء السياسي. وكانت عودتهم مقرونة بضمانات خولتها الدولة ما بعد مرحلة فرانكو وذلك بسلك طريق المشاركة في بناء دولة المؤسسات، ووضع الحد لتقديس الزعماء.
خاتمة
خلاصة القول فقصر الحمراء ما كان ليكون بغرناطة في مثل هذا الإبداع لولا سقوط قرطبة وإشبيلية والتحاق جل فنانيها وحرفييها بغرناطة. إنَّ الإحساس بالنهاية هو الذي قاد الأندلسيين لإنجاز أرقى عمران على وجه الأرض، وكما يقول الشاعر:
هذه آثارنا تدل علينا *** فانظروا بعدنا للآثار.