قبل أكثر من قرن، اجتمع سايكس وبيكو في قاعة باردة ليرسما حدودا لدول لم تكن قد وُلدت بعد. تقاسما تركة “الرجل المريض” دون أن يسأل أحد عن إرادة الشعوب، ولا عن تناسق الجغرافيا أو تماسك التاريخ. رسموا خطوطا على الورق، وغرسوا خناجر في الجسد العربي.
اليوم، في غزة يحترق هذا الجسد الهزيل تحت نيران تقصفه من الجو، وتخنقه من البر، وتغلق في وجهه البحر. وفيما يُباد الأطفال، ويُحاصر الجائعون، تتكشّف الحقائق: لم تعد سايكس ــ بيكو مجرد ذكرى استعمارية تتعلق بحدود قُسّمت، بل أصبحت واقعا يتجدد عبر تجزئة الوعي، وتفكيك الروابط، وتضييع البوصلة. صار الهمّ الوطني أضيق من أن يتسع لطفلة تموت عطشا على حدود رفح.
لقد ربح المشروع الاستعماري أكثر من ترسيم حدود. لقد انتصر على الفكرة نفسها: فكرة الوحدة، والانتماء، والتضامن.
هُزمت “الهوية الجامعة” حين تحوّلت العروبة إلى شعار مهجور، والإسلام إلى عبادات فقط، وفلسطين إلى “قضية خارجية” عند البعض، و”مأزق أخلاقي” عند بعض النخب، و”عبء سياسي” عند أنظمة ترتعد من انتشار عدوى الانتفاضة.
لكن المشهد لا يخلو من مفارقة مؤلمة: أوروبا، التي شاركت في التأسيس لمأساة الفلسطينيين بوعد بلفور، تقف اليوم – ولو متأخرة ومترددة – لتعيد طرح سؤال الدولة الفلسطينية في مجلس الأمن، فقد أصبحت فرنسا وبريطانيا تتحدثان بلغة “الاعتراف”.
أما ما هو أخطر من حدود سايكس ــ بيكو، فهو انهيار الوعي الشعبي العربي. فقد بات تبرير المجازر عملا مقبولا، والفرجة عليها نمطا من الحياة اليومية، لا يستفز ضميرا ولا يوقظ ساكنا.
إسرائيل اليوم لا تسعى إلى إسقاط سايكس ــ بيكو لأنه مهين لها، بل لأنه بات ضيقا على مشروعها التوسعي. وهي تفعل ذلك بمباركة أميركية ولا مبالاة عربية. فبينما ترفع تل أبيب ميزانية جيشها إلى مستويات قياسية، وتنشر خرائط “إسرائيل الكبرى” من النيل إلى الفرات، لا تجد من يردّ أو يعترض، إلا بصوت خافت أو تغريدة باهتة.
لقد آن للعالم العربي أن يختار: إمّا أن يعيد رسم خرائطه بيده، ويستعيد زمام أمره، ويبعث في الأمة وعيا جديدا يرفض الوصاية ويكسر الحصار، أو أن يواصل العيش في ظل اتفاق وُقّع قبل مئة عام بين قوتين غادرتا المشهد، تاركتين أبناء المنطقة يتنازعون على أطلال، ويحرسون حدودا لم يرسموها.
ولعل غزة، رغم العتمة، تظل آخر شظايا الوعي التي لم تُطفأ بعد.