في هذا المكتوب، كلامٌ من القلب. لكنه ليس حديثا عاطفيا لا ينضبط بقواعد الصرامة العلمية. إن هذه العاطفة (حتى في التحليل الأكاديمي الرصين) أشبه بالنسغ الذي يسري في النبات ويمنحه الحياة.. ونحن بهذه الصورة، نكتب عن المغرب. بالوجدان الصادق الذي يحيي الكلمات الجامدة من موات.
وفي هذه المناسبة السعيدة، عيد العرش المجيد، تبادلت أطراف الحديث مع ثلة من أصدقائي الأكاديميين. حديث القلب قبل كل شيء.. أعني حديث التعاطي الوجداني مع حقائق الواقع الذي لا يرتفع: المغرب بات اليوم بلدا صاعدا يرتقي -يوما بعد آخر- مدارج الصدارة في العالم.
فكانت هذه الخاطرة نتاج هذا التناغم الفريد بين القلب والعقل..
بداية الحديث..
منذ أزيد من ربع قرن، يسير المغرب بخُطى واثقة نحو تحقيق أهداف التنمية المنشودة. وهي الخُطى عينها، التي ترسخ مكانته على الصعيد الدولي بوصفه قوة فاعلة، مؤثرة، موثوقة، وذات مصداقية. ويضفي هذا الترابط الوثيق بين المنجز التنموي والصيت الدولي على الفعل المغربي، الذي تقوده إرادة ملكية مستنيرة، طابعا متفردا يجمع بين العبقرية في الرؤية، والفاعلية في الأداء، والإنجاز على أرض الواقع.
إنها حلقة تكاملية، هي نتاج عقل استراتيجي يستشرف المستقبل بعيون الواثق المستعد، لا تنفك فيها التنمية الداخلية عن التأثير الخارجي.
سألت صديقي الخبير الاقتصادي المتألق علي غنبوري عن سر هذا النسيج المتفرد فأجاب: “هذا التناغم يغذي بعضه بعضا، كلما تعمقت الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية ارتفعت جاذبية المغرب كشريك استثماري وسياسي، وكلما توسع إشعاعه الدبلوماسي عاد ذلك بالتمويل والتكنولوجيا وفرص التصدير لدعم النموذج التنموي”.
تكتسي هذه المقاربة أهمية بالغة وراهنية متجددة، وتثير سؤالا كشافا يلقي على التجربة المغربية المزيد الأضواء: أين يتجلى تأثير هذا الثلاثي (العبقرية والفاعلية والإنجاز) في توجيه حركة التطور المغربي صعودا نحو تحقيق غاياته الكبرى؟
قصة نجاح
قصة النجاح المغربي جديرة -حقا- بأن تروى. وبعيدا عن “مغازلة الذات”، يمكن الجزم بأن الرؤية العبقرية التي دفعت في اتجاه صناعة نموذج مغربي خالص تعطي ثمارها منذ أزيد من ربع قرن، تحت القيادة الحكيمة لجلالة الملك محمد السادس الذي أرسى أسس مغرب قوي، متماسك، صاعد، وفاعل في محيطه الحيوي وموثر على الصعيد الدولي.
في حديثي إلى صديق آخر، هو الباحث في القضايا الإنسانية والاجتماعية سمير بودينار، سجل ملاحظة منهجية لا تقبل التأويل: “لا تكون ريادة أي بلد إلا صناعة وطنية”. وهنا، يتجلى مكمن التميز في التجربة المغربية الحديثة. وبلا أدنى شك، فإن المغرب بلد جدير بالثقة في مكانته المتميزة وتجربته المتفردة في تدبير العقد الاجتماعي من خلال علاقة راسخة بين العرش والشعب، يؤكد الرجل الذي راكم عقودا من الإنتاج المعرفي في مراكز بحثية مكرسة في المغرب وخارجه.
كيف أمكن -إذن- أن تجمع المملكة بين تسريع وتيرة المجهود التنموي الداخلي وزيادة الإشعاع الدولي الممتد في العالم بأسره؟ “لا سياسة خارجية ناجحة بدون سياسة داخلية ناجحة”. هذه العبارة سمعتها مرارا من صديق عزيز، هو أستاذ العلاقات الدولية عبد الفتاح البلعمشي. ثمة ترابط عضوي بين المسارين. و”القاعدة الأساسية في تطور أي بلد، تفرض أن يكون تقدم الدولة وإشعاعها على الصعيد الخارجي مرتبطا بشكل وثيق بتطورها على الصعيد الداخلي”، كما يقول الصديق عبد الهادي مزراري، كاتبنا الصحافي العزيز.
وتكفي نظرة بانورامية -من الأعالي- لتنجلي تحت الأعين المراقبة تفاصيل الترابط البنيوي بين عناصر الفعل المغربي الناجع في الداخل كما في الخارج: إنها شبكة منجزات متضافرة تفتل مجتمعة في حبل “الاستثناء” المغربي في عالم ينحو إلى مزيد من اللايقين.
توجهت بالسؤال مرة أخرى إلى الصديق علي غنبوري، فكثف عناصر الصورة في جملة موحية “المغرب يبني المستقبل بعقل متبصر يقرأ التحولات الدولية ويستبقها، ويزرع قيم المواطنة والإنتاجية في آن واحد”.
هي الريادة، بكلمة. وهي فعلا وليدة ديناميات داخلية في المقام الأول، أساسها المقومات الذاتية للمغرب، بخصائصه التي صنعت تجربته الداخلية، ومن ثمة انعكست في سياساته الخارجية وبالتالي وضعه الدولي، كما يعبر الصديق سمير بودينار.
ولكن.. دعونا نبدأ من حيث تنبغي البداية: الجغرافيا. وهي حتمية بلا ريب. لكن المغرب استطاع، بذكاء استراتيجي يعز نظيره في التجارب المعاصرة، أن يحولها إلى فرصة انطلاق نحو آماد لا تعوقها حدود الجغرافيا نفسها. ولعله من نافلة القول، في هذا السياق، الحديث عن امتدادات المغرب الثقافية والاقتصادية في إفريقيا، وتأثيره السياسي والاقتصادي في جواره المتوسطي والأوروبي، وانفتاحه الاستراتيجي على الفضاء الأطلسي الواسع، لا سيما عبر ميناء الداخلة الذي يندرج في إطار الرؤية الملكية للتنمية المندمجة للواجهة الأطلسية وتعزيز التعاون جنوب-جنوب مع دول الساحل.
وهكذا، صار للمغرب أجنحة يحلق بها في كل الآفاق، بفضل الحكمة الملكية المتبصرة بعيدة النظر.
أما مشروع أنبوب الغاز الإفريقي-الأطلسي (نيجيريا-المغرب)، فتلك قصة نجاح أخرى، إذ سيوفر هذا المشروع بنية تحتية تمتد على مسافة 6 آلاف كيلومتر عابرة لعدة دول إفريقية، وسيمكن من إيصال الطاقة إلى نحو 400 مليون شخص في 13 بلدا.
المغرب الرائد
هذه النجاحات المتوالية أكسبت المغرب مكانة دبلوماسية منحته صوتا مسموعا في المحافل الدولية، إذ يقود مبادرات الوساطة في القضايا الإقليمية، ويعزز عمقه الإفريقي عبر شراكات جنوب-جنوب، ويراهن على المبادرة الأطلسية لربط دول الساحل بالممرات البحرية والتجارية.
إنها، كما يؤكد صديقنا علي غنبوري، بمثابة حلقة صاعدة تحول الرؤية العبقرية إلى سياسات فاعلة، وتترجم الفاعلية إلى إنجازات ملموسة، فتكتمل دورة الصعود الوطني في تناغم بين الداخل والخارج وتصبح الريادة فعلا متجددا لا شعارا عابرا.
يقول الخبراء المختصون إن الإنجازات الكبرى التي حققها المغرب هي ثمرة للأسلوب الذي طبع سياساته، أسلوب يؤمن بالعمل الهادئ وتحقيق الأهداف بعيدا عن الصخب ودون مزايدة أو ادعاء، بتعبير الخبير الدولي سمير بودينار.
وفي حيز الإنجاز الملموس، يتحدث صديقنا علي غنبوري -بالكثير من الفخر، شأن كل المغاربة- عن مركب “نور” بورزازات، الذي صار أكبر منصة شمسية في إفريقيا، وميناء طنجة المتوسط الذي اعتلى صدارة الموانئ المتوسطية، ثم القطار فائق السرعة “البراق” كرمز لتفوق البنية التحتية المغربية، إضافة إلى التغطية الصحية الشاملة التي دخلت حيز التطبيق تدريجيا، وتحويل صندوق محمد السادس للاستثمار إلى أداة لتمويل المشاريع الاستراتيجية.
كل ذلك يمنح العالم بأسره أدلة يومية، يراها رأي العين، على أن التنمية ليست حبرا على ورق بل هي أوراش ملموسة، يعيشها المغاربة في تفاصيل يومهم، شأنهم شأن السائحين القادمين من كل حدب وصوب.
دعك من الحديث عن ريادة المغرب في صناعة السيارات، وفي استثمار الطاقات المتجددة، وعن جهوده الصادقة لإسماع صوت إفريقيا في المحافل الدولية، وعن مشاريعه المهيكلة لتسريع الاندماج الإفريقي، وعن الربط القاري مع الجارة إسبانيا، وعن مساعيه الإنسانية اللافتة، وعن المبادرات الملكية التي تشمل كل مناحي الحياة في المغرب وتمتد إلى العالم ساعية إلى ضمان رفاه المواطن في إفريقيا وفي كل مكان.
والآن… وبعد هذا النقاش الماتع مع هؤلاء الأصدقاء، وهم الخبراء المكرسون، قفز إلى ذهني سؤال أخير:
هل يطيق توصيف “العبقرية” أن يكثف كل هذه المعاني؟ يجيب صديقي الباحث السوسيولوجي سمير بودينار أن هذه العبقرية تمثلها رؤية ملكية متبصرة، وتراث ممتد وتاريخ عريق وشرعية راسخة.
يسحب عبد الهادي مزراري خيوط النقاش نحو أفق آخر حين يلاحظ أن عيون المراقبين ترصد بالكثير من الإعجاب تأثير المغرب المتعاظم على الصعيد الدولي، إلى درجة أن وسائل الإعلام الدولية باتت تطرح سؤالا متكررا على خبرائها من كل المشارب “من أين اكتسب هذا البلد الصاعد قوته وتأثيره؟”.
ويبدو أنها ملاحظة جوهرية فعلا. لأن هذا السؤال قد ملأ الدنيا حقا وشغل الناس.. ولكن الجواب المغربي متاح تحت بصر العالم وسمعه: إنه ببساطة شديدة، وصفة مغربية خالصة قوامها تلاحم وثيق بين العرش والشعب.
ترابط وثيق تزيده المحبة المتبادلة، الصادقة، المخلصة ثباتا ورسوخا واستدامة.