
تضمَّن الخطاب الملكي السامي مساء أمس الثلاثاء 29 يوليوز 2025، بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش المجيد، العديد من المحاور الإستراتيجية التي تحظى باهتمام وعناية خاصة في فكر المؤسسة الملكية، انطلاقًا من مؤسسة البيعة باعتبارها ميثاقًا مباشرًا بين الملك وشعبه. ومن جملة القضايا التي وردت في الخطاب الملكي، إعادة التأكيد من أعلى مؤسسة دستورية في النظام السياسي المغربي على حرصها والتزامها بالانفتاح على المحيط الجهوي، وخاصة الجوار المباشر الذي يجمع بين الشعبين المغربي والجزائري اللذين تجمعهما علاقات اجتماعية وتاريخية، وتربطهما مقومات مشتركة كوحدة اللغة والدين، والجغرافيا والمصير المشترك.
لكن – للأسف – نجد أن هذا الطموح المغربي الهادف لتفعيل القنوات الدبلوماسية الرسمية، تقابله القيادة الجزائرية بممارسات مناقضة، حيث تجعل الأخيرة من معاكسة المصالح الاستراتيجية المغربية على مستوى المحافل الدولية أحد مقومات سياستها الخارجية، عبر محاولاتها الدؤوبة افتعال مشاكل وهمية للمغرب. ولا نخشى المبالغة إذا ما قلنا إن هدف الدبلوماسية الجزائرية الأول والأساسي هو الإساءة للمصالح الوطنية للمغرب، حيث يعتبر ذلك من ثوابت العقيدة الدبلوماسية الجزائرية، خاصة حينما يتعلق الأمر بالوحدة الترابية والسيادة المغربية على الصحراء المغربية.
في المقابل من ذلك، نجد بأن المؤسسة الملكية تبقى حريصة كل الحرص – قولًا وفعلًا – على حسن الجوار والحوار، وتبني سياسة “اليد الممدودة” للجزائر، مبادرة يسعى من خلالها ملك المغرب إلى حوار صريح وجاد وصادق حول مختلف القضايا السياسية العالقة بين البلدين، بالشكل الذي يُبيِّن أن المؤسسة الملكية بالمغرب مقتنعة ومؤمنة بأن “ما لم يتحقق بالدبلوماسية يمكن تحقيقه بمزيد من الدبلوماسية”. وهذا الطرح يتماشى مع عقيدة المغرب الدبلوماسية ومقومات سياسته الخارجية التي تتأسس على السلم والحوار واحترام السيادة الداخلية للدول، فضلًا عن مبدأ حسن الجوار مع الجزائر بالرغم من إساءاتها المتكررة للمغرب في أكثر من مناسبة وفرصة.
هذا، وما تجدر الإشارة إليه هو أنه ليست هذه هي المرة الأولى التي تتبنى فيها أعلى سلطة في البلاد سياسة “اليد الممدودة” بالرغم من تعنت حكام الجزائر، وبالرغم أيضًا من الاختلاف في التقديرات السياسية بين البلدين. ولعل ما يبرر دعوة المغرب للجزائر في مناسبات كثيرة إلى تفعيل قنوات التواصل الدبلوماسي الرسمي بين الطرفين لحلحلة القضايا الخلافية وطرحها على طاولة النقاش الهادئ والهادف، هو أن القيادة المغربية مدركة – وعلى وعي – بتنامي التهديدات الأمنية التي تتربص بالمنطقة، والتي تعرضها للتهديدات والمخاطر الأمنية والجيواستراتيجية، وذلك من خلال المحاولات الحثيثة التي تقودها بعض التنظيمات المتطرفة و”الميليشيات” المسلحة – للأسف – من الجارة الشقيقة، قصد توسيع دائرة التهديدات والمخاطر الأمنية إلى أبعد مدى. وهي التحديات التي جعلت المغرب يدرك أن هذا الوضع لا يسمح بمزيد من التوتر بين بلدين شقيقين من نتائجه قطع العلاقات الدبلوماسية بين دولتين يربطهما مصير مشترك، كما أنه لا يسمح بتباعد المواقف وتعطيل القنوات الدبلوماسية. لهذا نجد أن المغرب متمسك بالانخراط الفعلي إلى جانب الدولة الجزائرية في منظمة الاتحاد المغاربي، رفقة باقي الدول الشقيقة، بالشكل الذي يجعل دول الاتحاد قادرة على محاصرة وتطويق التحديات السياسية والتهديدات الأمنية والجيوسياسية. إذ بفعل الممانعة والتعنت الجزائريين، لم يكتب لهذه المنظمة أن تضطلع بالأدوار الأساسية التي أحدثت من أجلها، وفي مقدمتها تنمية أواصر التعاون وتحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي، وتعزيز الروابط الثقافية والاجتماعية بين شعوبها، بالإضافة إلى مواجهة التحديات الإقليمية والدولية بالمنطقة.
هذا، ويمكن اعتبار هذه الدعوة الأخيرة – بالإضافة إلى الدعوات السابقة من المغرب للشعب الجزائري الشقيق اللذين تربطهما روابط ووشائج متجذرة عبر التاريخ، قصد تشبيك العلاقات بين الدولتين – تجعل (أي الدعوة) المغرب غير مسؤول وفي حلٍّ مما يمكن أن يترتب على هذا الوضع الإقليمي غير المرغوب فيه مستقبلًا. كما تجعل المغرب يسجل نقاطًا إيجابية على حساب الطرف الجزائري الذي يتبنى سياسة “الأذان الصماء” تجاه كل الدعوات المغربية المتكررة لإقامة علاقات ثنائية قوامها السلام وحسن الجوار. وهو ما سبق وأكده ملك المغرب في مناسبات سابقة حينما قال – بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لتربعه على عرش أسلافه الميامين -: “إن المغرب لن يكون مصدرًا لأي شر، أو سوء للجزائر”، وفي نفس الوقت تمت الدعوة إلى فتح الحدود بين البلدين الجارين.
ختامًا، يمكن القول إن عدم استجابة الجزائر للدعوات الملكية لتوطيد العلاقات الثنائية وتنمية جسور الحوار حيال القضايا السياسية العالقة بين الدولتين وتبديد حالة سوء الفهم، سيحرم الجزائر من العديد من الفرص الاستثمارية الواعدة التي أطلقها المغرب بشراكة مع بعض الدول الشقيقة والصديقة. ذلك أنه – لحد الآن – يبقى غير مفهوم استمرار الجزائر حبيسة منطق فاقد للمصداقية وغير مسنود بالمبررات الموضوعية، ولا ينسجم مع مصلحة الشعب الجزائري. ففي الوقت الذي ينتظر من القيادة الجزائرية التجاوب مع الطرح المغربي الذي يقدم فرصًا واعدة للنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بالشكل الذي يعود بالنفع المشترك على الدولتين ويوجد حلولًا ترضي كلا الطرفين من منطق “لا غالب ولا مغلوب”، ما زالت الجزائر متشبثة برفض جميع الصيغ المقترحة من الجانب المغربي لتهدئة الأوضاع وإعادة فتح القنوات الدبلوماسية. وفي المقابل من ذلك، لا تذخر الجزائر جهدًا من أجل تأجيج الأوضاع الأمنية عبر المناطق الحدودية من خلال تسليح ما يسمى بـ”جبهة البوليساريو”، فضلًا عن تسخير جهودها الدبلوماسية من أجل هدف واحد ووحيد، ألا وهو السعي لإضعاف المغرب حتى لا يستمر كقوة إقليمية مؤثرة. وهو ما تكشفه المحاولات الأخيرة من الجانب الجزائري الهادفة إلى اختلاق وافتعال مشاكل وهمية للمغرب من خلال إنشاء كيانات مصطنعة بدون تاريخ أو بدون هوية، عبر توظيف ورقة “الريف”، في مناورة مكشوفة ومفضوحة، خاصة بعد تآكل ونهاية أطروحة “الانفصال” التي تم نسفها من خلال الدعم الدولي الكبير واللامتناهي لمبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد لقضية الصحراء المغربية، أبدته قوى كبرى فاعلة ومؤثرة في المنتظم الدولي، من خلال دعمها الصريح للطرح المغربي باعتباره الأكثر واقعية والأكثر جدية، كان آخرهما موقف المملكة المتحدة وجمهورية البرتغال بدعمهما لمبادرة الحكم الذاتي في إطار سيادة المغرب على صحرائه وأقاليمه الجنوبية.