في سياق وطني مشحون بدلالات الاستمرارية والإصلاح، وبمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لاعتلائه العرش، ألقى جلالة الملك محمد السادس – نصره الله – خطابًا ساميًا يوم 29 يوليوز 2025. لم يكن الخطاب مجرد مناسبة رمزية أو بروتوكولية، بل شكّل محطة تأمل عميق في أعطاب النموذج التنموي، ومساءلة شجاعة لمنطق “مغرب بسرعتين” الذي يُعمّق الفوارق الاجتماعية والمجالية، ويُهدد التماسك الوطني في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وقد اتسم الخطاب الملكي بنبرة نقدية واضحة، وبنزعة توجيهية تستشرف مغربًا جديدًا، أكثر عدالة واندماجًا، حيث لا يُقصى أحد من ثمار التنمية، ولا تُترك فيه أي فئة أو منطقة على هامش التحول الوطني. إنه خطاب يُعيد تموقع الدولة كفاعل ضامن للعدالة المجالية والاجتماعية، ويستدعي السياسة في جوهرها الأخلاقي والفعّال، ويحث على إعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسساته التمثيلية.
وقد تضمّن هذا الجزء من الخطاب رسائل محورية ثلاث:
نقد الواقع التنموي غير المتكافئ، وتسمية الاختلالات بأسمائها دون مواربة؛
رسم ملامح مشروع مجتمعي مندمج، يؤمن بالعدالة كشرط ضروري للاستقرار والتقدم؛
دعوة صريحة إلى تجديد النخب وتعزيز ميثاق الثقة بين الدولة والمجتمع.
استنادًا إلى هذه المرتكزات، سنقارب هذا الجزء من الخطاب السامي من خلال ثلاثة محاور أساسية تُجسد عمق التشخيص، وجرأة الطرح، وطموح الرؤية الملكية، على أن نختم بخلاصات تركيبية تليق بمستوى هذا الخطاب التاريخي.
المحور الأول: “مغرب بسرعتين”.. تشخيص ملكي لخلل التنمية المجالية والاجتماعية
شكّل الخطاب الملكي مناسبة لوضع الأصبع على جرح غائر ظلّ يؤرق المغرب لعقود: الفوارق المجالية والاجتماعية، أو ما سمّاه جلالة الملك بـ”مغرب بسرعتين”. وهو توصيف لا يندرج ضمن البلاغة الأدبية فقط، بل يُمثّل اعترافًا رسميًا بواقع مفارق تتعايش فيه نخب حضرية مستفيدة من الفرص والبنيات التحتية ومراكز الاستشفاء والتعليم، إلى جانب فئات عريضة من ساكنة القرى والمناطق الجبلية التي تعاني من العزلة، ونقص الخدمات، وغياب الحد الأدنى من العدالة المجالية.
وإن لم يكن هذا التشخيص جديدًا في ذاته، فإن مصدره هذه المرة – من أعلى سلطة في الدولة – يمنحه شرعية أخلاقية، وسياسية، ودستورية مضاعفة، ويدفع بالنخب السياسية والإدارية إلى الاعتراف بعجز النموذج التنموي السابق، والحاجة إلى تجاوزه نحو نموذج أكثر عدالة ونجاعة.
وقد اتسم هذا الجزء من الخطاب السامي بنفَس نقدي نادر في خطابات الدولة، إذ لم يتردد جلالة الملك في الإشارة إلى أن الفجوة بين المركز والهامش لم تعد اقتصادية فقط، بل أصبحت فجوة مجالية، واجتماعية، وثقافية، وجندرية. ويتجلى ذلك بوضوح في التطرق إلى أوضاع النساء في العالم القروي، اللواتي يتحمّلن العبء الأكبر لهذه اللامساواة: من ضعف الولوج إلى الخدمات الأساسية، وبعد المؤسسات التعليمية، إلى غياب التمثيلية السياسية.
بهذا المنظور، يبدو الخطاب كإعلان عن نهاية مرحلة سياسية واجتماعية ارتكزت على مقاربات جزئية وغير منصفة، وبداية مرحلة جديدة تُبنى على تشخيص موضوعي، ومقاربة دامجة، وعدالة ترابية تُنصف الإنسان أينما كان، وتحرّره من “جغرافيا القدر”.
المحور الثاني: نحو مفهوم جديد للتنمية.. من الإحسان إلى مشروع العدالة الاجتماعية
من بين النقاط البارزة في الخطاب الملكي، كانت الدعوة الواضحة إلى اعتماد “مفهوم جديد للتنمية الاجتماعية”، يتجاوز النظرة التقليدية التي اقتصرت على توزيع المساعدات وتحسينات ظرفية لمشاكل مؤقتة. هذا المفهوم الجديد يهدف إلى معالجة جذور التفاوت الاجتماعي بشكل عميق ومستدام، من خلال إصلاحات شاملة تضمن تمكين جميع الفئات والاستجابة لحاجياتهم الحقيقية، بدل الاقتصار على حلول مؤقتة لا تغير الواقع الجذري.
يقوم هذا المفهوم الجديد على ركيزتين أساسيتين: الإدماج والاستدامة، وذلك من خلال سياسات عمومية مندمجة تعيد للدولة أدوارها الاجتماعية، وتحوّل منطق “الإحسان” إلى منطق “التمكين” الحقيقي للمواطن.
وقد انتقد جلالة الملك بوضوح المسار الليبرالي المتوحش، الذي همّش الدور الحمائي للدولة، وشجّع على تفاقم الفوارق الطبقية والمجالية، داعيًا إلى استعادة الدولة الاجتماعية لمكانتها كضامن للكرامة، ومؤطر للعدالة، ومحفّز للتنمية. فالتنمية المنشودة، كما وصفها الخطاب، ليست مجرّد مبادرات ظرفية أو موسمية، بل “مشروع مجتمعي مهيكل” يشمل قطاعات حيوية كالتعليم، والصحة، والسكن، والتشغيل، والنقل، والتكوين المهني.
ولم يفت الخطاب التأكيد على دور النساء، مرّة أخرى، ليس فقط باعتبارهن فاعلات في التنمية، بل كرافعة أساسية لهذا التحوّل الاجتماعي. وهو ما يكرّس “العدالة الجندرية” باعتبارها مكوّنًا بنيويًا ضمن رؤية شاملة للعدالة الاجتماعية. وهكذا وضع الخطاب شرطًا واضحًا: لا تنمية دون إنصاف المرأة، ولا عدالة بدون إدماج الفئات المقصية، ولا مستقبل دون دولة اجتماعية قوية وراشدة.
إنه خطاب يعيد فتح النقاش العمومي حول طبيعة الدولة التي نريد، والمجتمع الذي نطمح إليه، والنموذج الاقتصادي الذي ينبغي أن يدمج لا أن يقصي، وأن يخلق القيمة لا أن يعيد إنتاج الفقر. إنها دعوة لتجاوز منطق التدبير الجزئي والموسمي إلى منطق الرؤية الاستراتيجية، القائمة على الكفاءة، والشفافية، والعدالة، والفعالية الترابية.
المحور الثالث: تجديد التعاقد السياسي وإعادة بناء الثقة – نداء للنخب والمسؤولية المشتركة
على بُعد أقل من سنة من الاستحقاقات التشريعية المقبلة، يضع الخطاب الملكي النخبة السياسية أمام لحظة مفصلية: إما الانخراط الجاد في تجديد الفعل السياسي، أو الاستمرار في خيانة الأمانة الوطنية. فالخطاب، كما أكد جلالة الملك، لا يوجَّه للحكومة وحدها، بل هو امتحان حقيقي للأحزاب السياسية، ولمدى قدرتها على تجاوز منطق الوعود الفارغة نحو تقديم مشاريع ترابية واقعية، وقابلة للتنفيذ، ومؤطرة بهمٍّ وطني حقيقي.
فالرسالة واضحة: لم يعد مقبولًا الاستمرار في تسويق خطاب انتخابي مفارق للواقع، ولا أن تبقى النخب السياسية جامدة، غير متجددة، وعاجزة عن مواكبة تحولات المجتمع المغربي. المطلوب اليوم هو نخبة جديدة: كفؤة، نزيهة، قادرة على الإنصات والاستشراف، وعلى اقتراح السياسات وتنزيل الرؤية الملكية ضمن برامج عمل واقعية وملموسة.
وفي هذا الإطار، تكتسي دعوة جلالة الملك إلى تعبئة كفاءات الجالية المغربية المقيمة بالخارج أهمية استراتيجية. فالأمر لا يتعلق بمجرد تكريم رمزي، بل برهان حقيقي على دمج كافة الطاقات الوطنية، وتكريس منطق الجدارة والاستحقاق بدل الولاءات والانتماءات الضيقة.
من جهة أخرى، يضع الخطاب مسألة استعادة الثقة كشرط جوهري لأي نهضة سياسية أو اجتماعية. فلا تنمية بدون تعبئة، ولا تعبئة بدون ثقة، ولا ثقة بدون أخلاق سياسية جديدة. وهنا يكمن البعد الأخلاقي العميق للخطاب، الذي يدعو إلى العودة لجوهر السياسة كأداة لخدمة الصالح العام، وتجسيد لإرادة الأمة، لا كوسيلة للغنيمة والزبونية والولاءات الظرفية.
ختامًا.. من خطاب الدولة إلى تعاقد الأمة.. الوفاء للثوابت والانخراط في التحول
يشكّل خطاب العرش لسنة 2025 أكثر من مجرد وثيقة توجيهية ظرفية؛ إنه “مانيفستو سياسي واجتماعي” يرسم معالم مغرب جديد: مغرب العدالة المجالية، والنهوض الاجتماعي، والمواطنة النشطة، والمساواة الفعلية. كما يمثل نداءً مفتوحًا إلى جميع الغيورين، أفرادًا ومؤسسات، نساءً ورجالًا، للانخراط الواعي والمسؤول في ورش التحول الوطني الكبير.
إنه خطاب يُلزم قبل أن يوجّه، ويستنفر قبل أن يُبشّر؛ خطاب يرفع من شأن الكفاءة والمساءلة، ويعلن نهاية زمن التبرير، وبداية زمن الفعل. وهو دعوة صريحة إلى “ثورة هادئة” في طرق تدبير الشأن العام، وفي تمثّلنا للدولة، والمجتمع، والعدالة، والمواطنة.
بهذا المعنى، لم يعد الانتقال إلى مغرب العدالة المجالية والاجتماعية ترفًا سياسيًا أو خيارًا انتقائيًا، بل صار ضرورة وطنية وتاريخية، ومجالًا لتجديد التعاقد بين الدولة والمجتمع.
نحن أمام خطاب سامٍ، بمثابة ميثاق شرف ونداء للمستقبل، يُطوي صفحة الفوارق، ليُومِض صفحة البوارق.