عمل المشرع الدستوري المغربي على منح آلية مهمة تعتمد عليها المؤسسة الملكية في توجيه السياسة العامة للدولة والسياسات العمومية بمعنى آلية تمكنها من رسم خارطة الطريق، ألا وهي آلية توجيه الخطاب الملكي، حيث إن هذه الأخيرة تؤكد بالملموس أننا أمام ملكية متكلمة، ملكية تنفيذية، ملكية القول والعمل، ملكية البرامج والمخططات الاستراتيجية.
لقد تم الانتقال بعيد العرش في العهد الجديد من ذلك الطابع الاحتفالي والديني، إلى صورة جديدة تجعل منه مناسبة لتجديد العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، حيث إنه في عيد العرش، تقوم المؤسسة الملكية بتحيين الأجندات ووضع برامج ومشاريع جديدة، فالخطاب الملكي السامي يحتل مرتبة الريادة في الزمن السياسي المغربي وخطاب المؤسسة الملكية يحتل مكانة السمو فوق جميع المؤسسات الدستورية، باعتبار أن جلالة الملك أسماه الله وأعز أمره هو رئيس الدولة بموجب الفصل 42 من دستور 2011.
إن ما يميز الخطاب الملكي في العهد الجديد أنه ذو اقتصاد زماني ولغوي لكنه يحمل دلالات قوية، مما يعني أن المؤسسة الملكية تعطي إشارة قوية على أنها مؤسسة العمل الجاد والفعالية والنجاعة.
وتأسيسا على ما سبق ذكره، سنعمل على تحليل خطاب العرش لهذه السنة وفق محورين:
المحور الأول: الاعتزاز بالمكتسبات الداخلية المحققة
لقد أصبح المغرب تحت القيادة الرشيدة والمتبصرة لجلالة الملك حفظه الله ورعاه قوة صاعدة، حقق العديد من المنجزات الاقتصادية والاجتماعية، فعلى الصعيد الاقتصادي، حافظ المغرب على نسبة نمو مهمة ومنتظمة لا سيما بعد جائحة كورونا وفي ظل الأزمات الدولية، كما تم بناء نموذج تنموي ذي اقتصاد قوي وتنافسي من خلال تحقيق السيادة الصناعية، إذ ارتفعت نسبة الصادرات منذ سنة 2014 إلى اليوم، كما تم تنويع مصادر التصنيع، والانفتاح على الصناعات الجديدة، كصناعة السيارات، الطيران، الطاقات المتجددة، والصناعات الغذائية مع الاعتماد على مخطط المغرب الأزرق الذي أعطانا نموذجا سياحيا مغربيا رائدا قادرا على تحقيق الإشعاع القاري والدولي، بالإضافة إلى تحسين البنيات التحتية عبر إحداث طرق السيارة، المطارات، الموانئ، وقطار فائق “السرعة مع إطلاق الخط فائق السرعة LGV.”
وفي السياق نفسه، بفضل الاستقرار السياسي، والمناخ المحفز على الاستثمار لا سيما ميثاق الاستثمار الجديد (القانون الإطار 03.22)، تمكن المغرب من تنويع شركائه، باعتباره شريكا موثوقا فيه، الشيء الذي أدى إلى رفع نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة وإبرام اتفاقيات التبادل الحر مما انعكس إيجابا على سوق الشغل ومعدل النمو، دون أن ننسى السيادة المائية ومواجهة الجفاف عبر سياسة ملكية حكيمة ورشيدة تم وضع لبناتها الأساسية في جلسات العمل التي ترأسها جلالة الملك والتي تُوجت بوضع البرنامج الوطني 2020-2027، بالإضافة إلى الخطب الملكية لا سيما خطاب افتتاح البرلمان 2022 الذي رسم أيضا خارطة طريق واضحة المعالم لتحقيق الأمن المائي.
لم يقتصر جلالة الملك نصره الله وأيده على النموذج الاقتصادي، بل تحدث أيضا عن التنمية الاجتماعية، فقد تم تسجيل تراجع مستوى الفقر متعدد الأبعاد على الصعيد الوطني طيلة عقد من الزمن من 2014 إلى غاية 2024، كما تجاوز المغرب سنة 2025 عتبة مؤشر التنمية البشرية، كل هذا بفضل المشاريع التي أطلقها جلالته في العهد الجديد من قبيل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ورش تعميم الاجتماعية… إلخ، لكن جلالة الملك في مستهل الخطاب تأسف بأن هناك مناطق مازالت تعاني من الفقر والهشاشة لا سيما بالعالم القروي وبأن جلالته لا يريد مغربا يسير بسرعتين.
ومن أجل بلوغ العدالة الاجتماعية والمجالية تم توجيه الحكومة بإعداد برامج التنمية الترابية، تأخذ بعين الاعتبار المعطيات المتعلقة بعملية الإحصاء العام لسنة 2024، وتراعي الخصوصيات المحلية، لهذا السبب اعتمد المغرب منذ سنة 2011 على ورش الجهوية المتقدمة والتي جاءت تتويجا لعمل اللجنة الاستشارية التي عينها جلالته سنة 2010، فالجهوية المتقدمة تعتبر الحجر الأساس في أي عملية تنموية، إلا أن نجاحها رهين باللاتمركز الإداري، وهذا ما أكد عليه جلالة الملك حفظه الله ورعاه في خطاب المسيرة الخضراء سنة 2008.
إن البرامج سيتم إعدادها في إطار المقاربة التشاركية عبر إشراك مختلف الفاعلين، مع توحيد الرؤى، وسيتم التركيز على دعم التشغيل والصحة والتربية والتعليم، مع تدبير استباقي يضمن الاستدامة المائية، وإطلاق برامج ترابية تكون منسجمة ومتجانسة مع البرامج الوطنية وهذا الدور تقوم به سياسة اللاتمركز الإداري التي تضمن لنا التنسيق حسب منطوق الفصل 145 من الدستور الجديد وكذا المرسوم 2.17.618 بمثابة الميثاق الوطني للاتمركز الإداري.
كما تحدث جلالة الملك عن إنجاح الانتخابات التشريعية للسنة المقبلة عبر الاستعداد الجيد لها.
المحور الثاني: مواصلة سياسة اليد الممدودة والانتصارات الدبلوماسية المتتالية
أكد جلالة الملك حفظه الله ورعاه على مواصلة سياسة اليد الممدودة تجاه الجزائر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على سمو أخلاق الملوك العلويين الكرام، وقد سبق لجلالته أن أكد منذ أربع سنوات في خطاب العرش سنة 2021، بأن المغرب لن يكون مصدر شر للجزائر، بل أكثر من ذلك أن جلالة الملك في خطاب المسيرة الخضراء سنة 2018 دعا الجارة الشقيقة إلى فتح قنوات للتواصل سياسيا قصد إيجاد حل نهائي.
إن الرؤية الملكية السديدة ترى بأن الاتحاد المغاربي لن يتحقق إلا في ظل تصالح الأشقاء المغرب والجزائر، لما لهما من دور كبير في إحياء معاهدة مراكش المحدثة لاتحاد المغرب العربي سنة 1989.
وفي نهاية الخطاب نوه جلالة الملك حفظه الله ورعاه بالانتصارات المحققة في ملف الصحراء المغربية (المملكة المتحدة والبرتغال نموذجين) عبر الدعم المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب سنة 2007، فالدبلوماسية الملكية تريد إيجاد حل نهائي وفعلي لهذا النزاع المفتعل.
وفي الختام، يمكن القول، إنه طيلة 26 سنة استطاع المغرب تحت القيادة الحكيمة لجلالة الملك أن يحقق انتصارات جعلت منه قوة صاعدة، فالمؤسسة الملكية لا تملك عصا سحرية، لكنها تملك الإرادة الحقيقية والطموح لخدمة المصالح العليا للمغرب.