يعتبر الفيلم الأمريكي “Requiem for a Dream” أو “قداس من أجل حلم” (6 أكتوبر2000 / المدة 102 دقيقة) للمخرج دارين أرنوفسكي تجربة حسية وفكرية جارحة تضع المتفرج في قلب معاناة الإنسان الحديث وتغرقه في دوامة الإدمان والانهيار والخذلان. إنه أحد أبرز الأفلام التي تنتمي إلى سينما القلق والاغتراب، حيث يصبح الجسد حلبة للمقاومة والانكسار والعقل ساحة للتشظي والسقوط؛ وهو فيلم ينتمي بوضوح إلى تيار السينما النفسية الوجودية التي تسبر أغوار الذات وتكشف آلامها وتعري الواقع من زخارفه الشكلية لصالح تمثلات داخلية جارحة وشبه كابوسية. ما المثير في هذا الفيلم؟ وما القيمة السينمائية النقدية لهذا الفيلم بعد مرور 25 عاما؟
“قداس من أجل حلم”.. خرائط العذاب
تنتمي سينما المخرج الأمريكي دارين أرنوفسكي إلى ما يمكن تسميته بسينما الانهيار أو سينما الكثافة النفسية، وهي سينما لا تهادن ولا تجمل؛ بل تسعى إلى ملامسة الهاوية بكاميرا مرتجفة وبنَفَس لاهث حيث تكون الشخصيات دوما على الحافة منهكة ومنهارة ومحمومة تبحث عن الخلاص وسط عالم ملوث أخلاقيا ومنهار قيميا. وفي هذا السياق، لا يكون فيلم “قداس من أجل حلم” سردا خطيا لحكاية إدمان؛ بل تأريخا لانهيار الحلم الأمريكي حين يتحول الحلم إلى سجن، وحين تصبح السعادة وهْما يُباع في كبسولة وحين تنهار الحدود بين الواقع والهلوسة وتُبتلع الشخصيات في فضاء رمادي لا خلاص منه.
ويشتغل الفيلم على قصة بسيطة ظاهريا لكنها مشحونة دلاليا وهواجسيا، يتورط شاب حالم، هاري غولدفارب (جاريد ليتو) في تجارة المخدرات طمعا في بناء حياة مع صديقته ماري (جنيفر كونيلي) في حين تعاني والدته سارة غولدفارب (إلين بورستين) من وحدة قاتلة تدفعها إلى إدمان الحبوب المنحفة بعدما تتلقى مكالمة كاذبة تخبرها باختيارها للمشاركة في برنامج تلفزيوني.
وتبحث كل شخصية عن متعتها بطريقتها الخاصة؛ لكنها في النهاية تقع في فخ المتعة الزائفة، وفي فخ الصورة الاستهلاكية، وفي فخ الوعد الذي لا يتحقق، وتتحول أجسادهم إلى خرائط للعذاب وعقولهم إلى بؤر للهلوسة ويصبح الحلم مجرد وهم بصري سرعان ما يتبخر تحت تأثير الحاجة والإدمان والخوف.
ولا يتعامل الفيلم مع الإدمان كعرض اجتماعي فقط؛ بل كشرخ أنطولوجي، إنه يضع الشخصيات في مواجهة محتدمة مع الذات. ويجعلنا نرى كيف يتفسخ الإنسان حين يُدمن المعنى أو الصورة أو الأمل المزيف. وهو بهذا يقترب من أطروحات فلسفية مثل ما طرحه هربرت ماركوز عن الإنسان أحادي البُعد أو حتى فريدريك نيتشه في نقده للضعف الإنساني حين يركن الإنسان إلى الخلاص الخارجي بدلا من المواجهة الداخلية.
وتتميز البنية السردية للفيلم القائمة على تقسيم ثلاثي للفصول، تحمل أسماء الفصول المناخية: الصيف والخريف والشتاء؛ وهو تقسيم غير اعتباطي، بل يعكس تدرج السقوط والذبول والانهيار. وتبدأ الشخصيات في الصيف بأمل ما، ببداية جديدة بشغف وفي الخريف تبدأ المشكلات بالتسلل والهواجس بالتضخم. أما في الشتاء فهو لحظة الانهيار التام، لحظة التحلل حيث يصبح الجسد أداة تعذيب والعقل مساحة جحيم لا مهرب منها. ويمنح هذا التقسيم الفيلم بنية موسمية تناظرية تتداخل فيها الحياة والطبيعة والانهيار الداخلي في توليفة شعرية مرعبة.
وتعتبر عمليات الإخراج المركبة في فيلم “قداس من أجل حلم” ليس محايدا؛ بل هو شريك في الألم. ولا يقدم المخرج لنا الشخصيات من بعيد؛ بل يُلصق الكاميرا بوجوههم، يلاحق أنفاسهم. ويقطع المشاهد لثوانٍ مكررة، لخلق الإلحاح والاختناق. ويستخدم تقنيات مثل split screen وfast cuts ليخلق شعورا بالتجزؤ والقلق والتكرار القهري. كما يكرر لقطات معينة باستمرار كمشهد غليان الماء أو فتح الثلاجة أو بلع الحبوب وكأن الشخصيات تدور في حلقة مفرغة من الطقوس اليومية التي تسحبهم نحو القاع.
وتُعد الموسيقى التي ألفها كلينت مانسيل واحدة من أقوى التجارب السمعية في تاريخ السينما، إنها ليست مجرد خلفية؛ بل هي صوت الروح وهي تنهار. وتتحول الموسيقى الحزينة والمتصاعدة لاهثة في الشتاء إلى صرخة خرساء تعمق من الإحساس بالسقوط المطلق وكأنها قداس جنائزي طويل لا يُعلن موته مرة واحدة بل بالتقسيط الموجع. وقد أصبحت هذه الموسيقى رمزا للمأساة الإنسانية في صيغتها الأكثر صفاء وحدة.
“قداس من أجل حلم”.. لغة الجسد المنهك
يقدم الفيلم نجد خطاب الصورة وخطاب التلفزيون وخطاب الجسد؛ فالصورة في الفيلم ليست مجرد مرآة بل مرآة مشوهة لا تعكس الحقيقة بل تحاكي الوهم. لا يقدم التلفزيون الحقيقة بل يبيع الحلم المزيف. وتمضي سارة وقتها تشاهد برامج تلفزيونية تبشر بالنجاح والسعادة وفقدان الوزن، وترغب في أن تظهر على الشاشة لتستعيد ماضيها وتُدهش الجيران؛ لكن الواقع أن الشاشة تبتلعها وتحولها إلى كائن مهلوس مسجون في لون أحمر صارخ وثلاجة تتحرك كوحش. ويعبر هذا الخطاب عن التلفزيون عن نقد أرنوفسكي العنيف للثقافة الاستهلاكية وللصورة حين تتحول إلى سلطة فوق الواقع.
أما الجسد فهو المسرح المركزي في الفيلم، حيث يتعفن الجسد بسبب الهيروين. والجسد الذي يُهان في السجن. والجسد الذي يُقطع كما يحدث مع ذراع هاري، إنه خطاب واضح ضد نزعة استغلال الجسد وتدميره باسم اللذة أو المجتمع أو النظام. هنا الجسد ليس ملكا لصاحبه؛ بل رهينة للمخدر وللوهم وللمؤسسة، وهو ما يذكرنا بأفكار المفكر ميشيل فوكو حين يتحدث عن السجن والمستشفى ونظام العقاب كمؤسسات تسيطر على الجسد وتشكلانه وفق نمط القوة.
في هذا السياق، يمكن القول إن الفيلم يطرح إشكالية مركزية، وهي إشكالية السيطرة من يملك السيطرة على الذات، على الرغبة وعلى المصير؟ يجيب الفيلم بصوت عالٍ لا أحد لا الذات ولا الأسرة ولا المجتمع؛ فالجميع خاضع لقوى أكبر منه، الإدمان ليس حالة فردية بل نتيجة لبنية كاملة من العجز واليأس والاغتراب والفراغ المعنوي. لا يحلم هاري بالثروة بل بامتلاك محل صغير لماري. ولا تبحث ماري عن الجنس بل عن الاعتراف. ولا تحلم سارة بالمجد بل بالحب الذي خسرته حين مات زوجها، هؤلاء ليسوا مدمنين بالمعنى السطحي بل ضحايا لحلم أكبر، كذب عليهم ثم التخلى عنهم.
ويشكل الفيلم سردية عن الإنسان المعاصر، الإنسان الذي فقد المعنى وتحول إلى كائن استهلاكي تتلاعب به الصور والرغبات والتقنيات. إنه يقف إلى جوار أفلام مثل Trainspotting وPi وFight Club في نقدها الحاد للواقع الحديث وللانهيار النفسي والفردي الذي يعانيه جيلٌ ما بعد الحلم، وما بعد الإيديولوجيا بعد الدين، وبعد الأسرة وما يقدمه الفيلم من انهيار ليس انهيارا بيولوجيا فحسب بل انهيار رمزي لإنسان فقد لغته، كما فقد حقيقته وتحول إلى تمثيل محض يُعاد تدويره عبر الشاشة أو الحلم أو الوهم…
“قداس من أجل الحلم”.. الاستهلاك الوجودي والانهيار المبكر
لا تمنح حتى نهاية الفيلم أي بصيص أمل؛ بل تقدم الشخصيات في لحظة السقوط النهائي في أوضاع جنائزية، هاري بذراع مبتورة وماري في عارٍ مذل (عاهرة) وسارة في غيبوبة دوائية وتايرون (قام بدوره مارلون وايانز) في سجن لا يُرى فيه سوى الظلمة. وكل منهم في وضعية الجنين وكأن الفيلم يختم بأنهم عادوا إلى نقطة الصفر، وإلى رحم الألم الذي لا ولادة بعده. وهذه الصورة الرمزية هي صرخة ضد العالم لا ضد شخصياته.
يعبر فيلم “قداس من أجل حلم” عن الاستهلاك الوجودي، وعن كيف نستهلك أنفسنا ونحن نطارد حلما لا نعرفه. وكيف تنهار الأحلام حين نؤمن بها أكثر من قدرتنا على تحقيقها. وهو فيلم لا يقدم خطابا أخلاقيا بل خطابا وجوديا مأزوما حينما يواجه الإنسان بالحقيقة دون أقنعة ودون ملاذات للنجاة والخلاص. إنه فيلم يجب أن يُقرأ لا فقط أن يُشاهد لأن كل لقطة فيه هي علامة وكل موسيقى هي نداء وكل صمت هو بكاء دفين.
لا يدع المخرج أرنوفسكي للمشاهد أية لحظة للراحة، إنه يُدخله ويقحمه في قلب التجربة. ويجعله يشعر لا فقط يرى ويجعله يواجه هشاشته وخوفه وشوقه المدفون. ويجعله يدرك أن أقسى ما في الألم أنه يأتي على هيئة حلم وأن أبشع ما في الحلم أنه قد لا ينقذك بل قد يدمرك. ومن هنا، يمكن أن نفهم لماذا لم يصمد الفيلم تجاريا وقت صدوره؛ لكنه تحول لاحقا إلى علامة فارقة في تاريخ السينما، لأن الناس احتاجوا وقتا كي يفهموا أن هذا ليس فيلما عن المخدرات؛ بل عن العالم وعن الإنسان وعن الانهيار المبكر الذي يسكننا جميعا.
في حقيقة الأمر، فإن فيلم “قداس من أجل حلم” هو الجرح المفتوح في قلب السينما الحديثة، الجرح الذي لا يندمل لأنه يشبهنا أكثر مما نظن.
سينما دارين أرنوفسكي.. سينما المناطق المهملة
يُعد دارين أرونوفسكي من أكثر المخرجين الأمريكيين إثارة للجدل في السينما المعاصرة بأسلوبه البصري القاسي، ومقارباته النفسية العميقة حيث تتسم أعماله بطابع سوداوي صارخ يقتحم المناطق المهملة في النفس البشرية ويعري هشاشتها أمام قسوة العالم الخارجي. ويرتكز أسلوب أرونوفسكي على تكثيف الشعور بالقلق والخوف الوجودي من خلال مونتاج متسارع وصور مجزأة وأصوات خانقة تخلق فضاء متوترا لا يترك مجالا للراحة أو الهدوء. ويعمد إلى تفكيك الجسد الإنساني وعرضه كموضوع صراع بين الإرادة والرغبة وبين الطموح والانهيار.
وتقوم سينما أرنوفسكي على استخدام تكرار المشهد كوسيلة لإبراز السقوط النفسي والشعور بالدوامة كما في “Requiem for a Dream” حيث تتكرر لقطات تعاطي المخدر بشكل ميكانيكي ليصبح الجسد عبدا لعاداته أو كما في “Black Swan” ،” البجعة السوداء” حيث تنغلق الشخصية في ذاتها حد الذوبان الكامل في الهوس بالكمال. المخرج مولع بتجربة الذات تحت الضغط وخلق سينما تختبر حدودها المادية والنفسية. ويكثر المخرج من استخدام الكاميرا المحمولة واللقطات القريبة للوجوه والجسد. ويعتمد على الموسيقى التصاعدية لإحداث ذروة متواصلة لا تنكسر إلا بالانهيار النهائي.
من أبرز أفلامه “Pi” ، ” الرقم السري ” (1998) عالج فيه جنون المعرفة وانهيار العقل أمام الأرقام؛ وفيلم ” قداس من أجل حلم “(2000) الذي يمثل انهيار الحلم الأمريكي في أربعة مسارات مدمرة؛ وفيلم ” البجعة السوداء ” (2010) حيث يتحول الطموح الفني إلى مرض نفسي قاتل؛ وفيلم “The Wrestler ، ” المصارع ” (2008) يرصد تآكل الجسد كبقايا حلم رجولي قديم؛ وفيلم “Mother! ” الأم ” (2017)، رمزي عن علاقة الإنسان بالطبيعة والخطيئة والعقاب ويُقرأ أيضا بوصفه هجاء عنيفا للذات الإلهية في صراعها مع الإنسان، وأخيرا فيلم “The Whale” ” الحوت ” (2022) الذي يتناول العزلة والذنب والحب المفقود من خلال جسد يوشك على الانفجار، ويترك المخرج لنفسه مسافة للتأمل بين فيلم وفيلم.
وتكمن سينما أرونوفسكي وجذورها في نزعتها القاتمة التي ترى العالم مكانا موحشا بلا خلاص، حيث تسيطر المخاوف الوجودية والانهيارات النفسية. كما يتهمه البعض بالمبالغة في تدمير الشخصيات وإذلالها بصريا؛ لكنه في المقابل يمنح الجراح معنى والمأساة بعدا شعريا يستحيل نسيانه. ويتحول الألم في أفلامه إلى سؤال فلسفي حول الجسد والهوية والمصير؛ فهو لا يقدم أجوبة، بل يصنع لحظات من الشك والارتباك والتساؤل حول ما إذا كان الإنسان يملك حق الخلاص أو أن الهلاك مكتوب عليه منذ البدء.
ولا تسعى سينما أرونوفسكي إلى الإرضاء، وهي غير مريحة اطلاقا؛ بل تحفر في الجرح الإنساني، وتترك الكاميرا هناك في أعمق لحظاته ضعفا وانكسارا. ولهذا، أصبحت أفلامه بمثابة كوابيس شعرية تصرخ من داخلنا وتوقظ أسئلتنا الأكثر إنكارا.
“قداس من أجل حلم”.. تعرية الحلم وتهاوي الشخصيات
ينتمي فيلم “فيلم قداس من أجل حلم” إلى خلفية فكرية وفلسفية مركبة تستند إلى عدد من التيارات التي التقت في نقطة مركزية واحدة هي الإنسان بوصفه كائنا هشا يتآكله الحلم وتفتته الرغبة وتطحنه السلطة. لا يقدم الفيلم رؤية نفسية فقط عن الإدمان؛ بل يُخضع الذات البشرية لتحليل وجودي صارم يُقارب أطروحات ألبير كامو وجان بول سارتر حول العبث والحرية والاختيار، كما يستعير من نقد نيتشه للضعف ومن تفكيكية ميشيل فوكو لمعنى السلطة على الجسد والهوية ومن المدرسة النقدية للمفكر ثيودور أدورنو وماركوز عن التشييء والاغتراب في المجتمعات الحديثة.
وتحضر في خلفية الفيلم بوضوح فكرة الحلم الأمريكي باعتباره وعدا كاذبا بالتحقق الفردي والنجاح والترف. وهو حلم تشكل خلال القرن العشرين في الخطاب الإعلامي والسياسي والاقتصادي كإيديولوجيا لا كأمل فردي. ومن هنا، فإن الفيلم يقوم بتعرية هذا الحلم عبر شخصيات تتهاوى لأنها آمنت به أكثر من قدرتها على مقاومته، فيتحول الحلم من أداة للتحفيز إلى فخ للتدمير، ومن وعد بالخلاص إلى أداة للتشظي وهنا يتقاطع الفيلم مع ما طرحه جان بودريار عن سلطة الصورة في المجتمعات المعاصرة حيث تصبح المحاكاة أقوى من الأصل ويصير الإنسان تابعا للوهم لا للواقع.
كما ينتمي الفيلم إلى منظور سوداوي في تأطيره ومرجعياته الفلسفية، عن الذات مفاده أن الإنسان في جوهره مخلوق ضعيف خائف، يبحث عن المعنى في الوهم وعن السكينة في الحبوب وعن القبول في الشاشة. وهكذا، تتحول أدوات الإعلام إلى وسائط للهيمنة النفسية، ويصبح الجسد أرضا مستباحة للتجريب الاجتماعي والسياسي والطبي. وتلتقي هذه النظرة مع مقولات فوكو في المراقبة والمعاقبة حين يرى أن السيطرة على الإنسان تبدأ من الجسد وأن المؤسسات الحديثة مثل المستشفى والسجن والإعلام لا تقتل الإنسان؛ لكنها تروضه وتفرغه من ذاته باسم الرعاية.
ومن جانب آخر، يُمكن النظر إلى الفيلم كخطاب عن اللذة والموت، وهي إحدى الثنائيات التي اشتغل عليها فرويد حين رأى أن الإنسان مدفوع برغبتين أساسيتين: رغبة الحياة ورغبة الموت. وأن ما يظهر في الفيلم هو انتصار للغريزة التدميرية على غريزة البقاء، لأن اللذة لم تعد مرتبطة بالحب أو الإبداع؛ بل بالدواء والمتعة العابرة. وهكذا، يصبح الإدمان مرآة لانهيار البنية الرمزية للعالم المعاصر حيث تتفكك الروابط ويتحول الإنسان إلى جزيرة منزوعة التواصل.
ولا يعمل الزمن في الفيلم كحركة خطية بل كدورة سقوط؛ وهو ما يمنحه بعدا دائريا أشبه بجحيم دانتي حيث تنحدر الشخصيات تدريجيا نحو قاع لا عودة منه دون خلاص ولا فداء. ويؤكد هذا الزمن المغلق رؤية وجودية متشائمة، ترى أن الإنسان ليس سيد مصيره بل أسير شروطه البيولوجية والنفسية والاجتماعية. وكل محاولة للخلاص لا تؤدي إلا إلى سقوط أعمق. وهكذا، يكون الفيلم تأملا قاسيا في معنى الحرية والمصير والهوية داخل عالم فقد توازنه ولم يعد يملك سوى إعادة تدوير الحلم حتى الموت.
“قداس من أجل قداس”.. البحث عن الخلاص
لا يمكن الحديث عن بطل واحد بالمعنى التقليدي في فيلم “قداس من أجل الحلم”؛ لأن كل شخصية تحمل داخلها بطولتها المأساوية، بطولتها المتآكلة، بطولتها التي تسير بخطى واثقة نحو الهاوية. لا تمثل الشخصيات الأربع الرئيسية، هاري وسارة وماري وتايرون، مجرد نماذج بشرية؛ بل كيانات تراجيدية تمشي في طريق اللاعودة. ولا تنتمي هذه الشخصيات إلى عالم النصر، بل إلى عالم الانكسار. ولا تسعى هذه الشخصيات إلى المجد؛ بل إلى لحظة من الحنان، من الاعتراف، من الوجود. وحين يعجز الواقع عن منحه لها تلجأ إلى ما هو خارج العقل والواقع والمسموح.
ويعاني هاري، وهو أقرب ما يكون إلى المركز في هذا الفيلم، من شعور عميق بالخذلان والضياع. ويبحث عن وسيلة للهروب من الحاضر ومن نفسه، يبيع الأجهزة المنزلية لأمه ليحصل على جرعة مخدر ثم يعود معتذرا مبتسما بعينين مثقلتين بالتعب والحب. وهو ليس شريرا ولا مجرما بل ضحية رؤية منكسرة للذات. ويرى في المخدر وسيلة لتحقيق الحلم لا الهروب منه، حلمه أن يمتلك شيئا صغيرا وبسيطا يكفيه ويكفي ماري، حلمه أن يكون ابنا جيدا لكنه لا يعرف كيف. ويمثل هاري صورة الإنسان الذي يملك رغبة حقيقية في التغيير، لكنه يسقط في طريقه إلى ذلك لأنه ضعيف لأنه لا يملك أدوات المقاومة والمناعة لأنه عاجز أمام اغترابه الخاص. ويقول هاري لماري: “أنتِ السبب الذي يجعلني أعيش”. وتختزل هذه العبارة كل شيء، حاجة الإنسان لأن يتعلق بآخر لينجو، لأنه يرى في الآخر نافذته إلى الحياة وحين يتحول هذا الآخر إلى شريك في السقوط.. تتضاعف المأساة ويتحول الحب إلى لعنة لا إلى خلاص.
وتعتبر سارة غولدفار هي الشخصية الأكثر عمقا وألما في الفيلم، هي سيدة، عجوز تعيش وحيدة، تحلم بأن تظهر في برنامج تلفزيوني ليس لأنها تهتم بالمجد؛ بل لأنها تشعر بأن لا أحد يراها. وهنا الحلم ليس حلم الشهرة؛ بل حلم الوجود. وهي تتناول الحبوب المنحفة لتستعيد جسدها، ذلك الجسد الذي تظن أنه سيعيد إليها ما فقدته من دفء وحب وحنان. تقول في إحدى اللحظات: “أجلس طوال اليوم أمام التلفزيون.. أنتظر رسالة من البريد، أنتظر أن يرن الهاتف لا شيء يحدث”. ويختصر هذا الانتظار وجودا هشا معلقا بين انتظار لا ينتهي ووهم لا يأتي. إنها شخصية مأساوية في عمقها، لا بسبب اختياراتها؛ بل بسبب النظام الذي يجعل امرأة في عمرها تظن أن الحل في الحبوب والشاشة والجسد.
أما ماري، فهي شخصية مفعمة بالتناقضات تبحث عن الحب؛ لكنها تقع في فخ التشييء الجسدي. وتستعمل أنوثتها لتقترب من الحلم؛ لكنها تكتشف في النهاية أن الجسد حين يُستعمل كوسيلة يصبح شيئا بلا قيمة. تقول لهاري في لحظة صادقة: “أريد فقط أن أكون معك، لا أريد المال، أريد فقط أن أكون معك”؛ لكن الحاجة تغلبها وتدفعها إلى أن تُسلم نفسها لرجال يتعاملون معها كسلعة وبضاعة متنقلة. وبهذا، تصبح ماري تجسيدا لجسد الإنسان حين يُباع مقابل المتعة المجانية حين يفقد ذاته في سبيل حلم لم يعد واضحا.
وتبدو شخصية تايرون هامشية، لكنها تحمل ثقلا وجوديا كبيرا، هو شاب أسود من خلفية مضطربة يسعى إلى تحقيق ذاته، ليهرب من صورة والده الميت، ومن تاريخه الشخصي. ويعاني من عنصرية صامتة ومن فقر صارخ. ويدخل في نهاية الفيلم السجن. ويُجبر على العمل الشاق في الحفر والركض في مشهد يتكرر ليُظهر كيف يتحول الإنسان إلى آلة جسدية بلا وعي، بلا أمل، ولا خروج. وما يميز شخصية تايرون هو أنه لا يتحدث كثيرا؛ لكنه يحمل في داخله قلقا وصمتا مؤلمين. تقول أمه له في أحد مشاهد الحلم: “أنت ابني وأنا فخورة بك”. وهذه العبارة، التي لا يسمعها في الواقع، تصبح الصوت الوحيد الذي يمنحه لحظة راحة قبل أن يُسحق مرة أخرى.
وكل هذه الشخصيات ليست بطلة لأن لديها قدرات خارقة أو تحقق انتصارا؛ بل لأن كل واحدة منها تواجه سجنها الداخلي: سجن الجسد والوهم والخوف، وتخسر في كل مرة لكنها تستمر في المحاولة. وهذا هو جوهر البطولة في الفيلم: البطولة التي لا تنتصر بل تحترق والتي لا تتكلل بالمجد بل بالخذلان.
وما يجعل من الفيلم عملا مميزا هو أنه لا يمنح أيا من هذه الشخصيات خلاصا، لا أحد ينجو. ويسقط الجميع: تنتهي سارة في مصحة عقلية، ويفقد هاري ذراعه، وتغرق ماري في دعارة صامتة، ويُدفن تايرون في السجن. وتأخذ هذه الشخصيات وضعية الجنين في لقطات متتابعة وكأنهم يعودون إلى نقطة البدء إلى حيث بدأ الألم لا للتطهر بل للاستسلام.
ولا يمنح فيلم “قداس من أجل حلم” بطله المجد؛ بل يمنحه وعينا المأساوي.. نحن نراه وندرك أنه يشبهنا جميعا في ضعفنا وأوهامنا ومحاولاتنا الفاشلة في البحث عن حب غير مشروط أو لحظة من لحظات التقدير. إنه فيلم عن الأبطال الصامتين الذين لا تكتب عنهم الصحف ولا يكرمهم أحد لأنهم ببساطة خسروا الحرب قبل أن تبدأ ومع ذلك قاتلوا حتى الرمق الأخير.
“قداس من أجل حلم”.. خطاب الأوهام والانكسارات
يتمتع فيلم “قداس من أجل حلم” بهوية سردية وخطابية وبصرية وجمالية مركبة تشكل نسيجا متكاملا من القسوة التعبيرية والعمق الرمزي والقلق البصري. إنه فيلم لا يُروى فقط؛ بل يُعاش من الداخل حيث يضع المشاهد داخل التجربة لا خارجها ويجعله يلمس انهيار الشخصيات، لا من خلال الحكاية وحدها بل عبر اللغة السينمائية ككل من الصوت إلى الضوء، ومن المونتاج إلى الموسيقى ومن زاوية الكاميرا إلى تمزقات الجسد.
لا يقوم الفيلم على التسلسل الكلاسيكي للأحداث ولا على العقدة والحل؛ بل على تصاعد داخلي مكثف للاضطراب والانهيار. ويقسم دارين أرونوفسكي السرد إلى ثلاثة فصول: فصل الصيف، وفصل الخريف، وفصل الشتاء. وتدخل الشخصيات في كل فصل أكثر في عتمة مصيرها ولا تخرج منه. ويعطي هذا التقسيم للسرد طابعا دوريا وكأن الزمن نفسه يدور على الشخصيات لا يحملها إلى الأمام؛ بل يعيدها إلى الحفرة الأولى. ولا تقدم سردية الفيلم الحدث وإنما سردية تقدم التجربة. وما يجعل من هذه السردية متفردة هو غياب أي صوت مهيمن أو بطل واضح، وتتقاسم الشخصيات جميعها تجربة السقوط والخذلان وتتوزع بينها الفصول والمصائر.
ويقوم الفيلم على نقد الحلم الأمريكي والخطاب الإعلامي والثقافة الاستهلاكية، حيث يتم تفكيك الأوهام التي يروج لها التلفزيون حول السعادة والجسد والمكانة الاجتماعية. سارة التي تنتظر مكالمة من برنامج تلفزيوني تجسد خطاب الإنسان الذي تحول إلى متلق سلبي لحياة لا تملكها بل تستهلكها. ويمثل هاري وماري وتايرون خطاب الشباب الذي وُعد بكل شيء لكنه لم يُمنح شيئا. ويخضع كلهم لخطابات متناقضة في العمق لكنها متوافقة في الأثر، خطاب النجاح الزائف، خطاب الجمال القاسي، خطاب الحنين المدمر، إنها خطابات محملة بالأوهام التي تقود إلى الانكسار.
ويحمل الفيلم هوية بصرية متفردة، تنبع من أسلوب أرونوفسكي الذي لا يكتفي بعرض الواقع؛ بل يعيد خلقه بصريا بشكل متوتر وقاسٍ، حيث تلتصق الكاميرا بالشخصيات وتلاحقها في زوايا ضيقة ومختنقة. وتستخدم العدسة الواسعة لإظهار الاغتراب، وتستعمل المونتاج السريع بشكل متكرر ومفجع بتوالى لقطات بلع الحبوب وغليان الماء وتقلص حدقة العين في تسلسل يجعل المتفرج يتنفس بنفس السرعة التي ينهار بها الوعي. ولا تُظهر الكاميرا العالم؛ بل تُظهر ما تراه عيون الشخصيات في قلقها في اضطرابها وفي عزلتها.
ولا يقوم الفيلم على الجمال بمعناه التقليدي؛ بل على جمالية القبح على التعبير العنيف، وعن المعاناة دون تزيين أو ترميز مفتعل. ويتحول الجمال هنا في القدرة على السقوط، وإلى مشهد فني في تحويل الفوضى النفسية إلى بناء بصري محكم الموسيقى التي ألفها كلينت مانسيل، والتي لا تأتي كزينة صوتية بل كمكون جمالي أصيل يعمق من التأزم ويؤطر التجربة الكاملة. وهي موسيقى مزيج من الكمان الإلكتروني المتصاعد والخلفية الحزينة التي تتحول إلى صراخ خافت مع توالي الانهيارات. ولا تُقدم الشخصيات في فضاء جمالي مريح بل في أماكن ضيقة قاتمة، وألوان حادة حمراء وزرقاء، مرهقة بصريا لكنها تعبر عن الداخل الذي يتشظى لا عن العالم الذي يتجمل.
ويمثل الحوار في الفيلم جزءا من هذه الهوية الجمالية، فهو حوار بسيط في ظاهره؛ لكنه مشحون بالدلالة والشوق والخذلان ما تقوله الشخصيات ليس مجرد كلمات بل مرآة لوضعها الداخلي. وتعبر سارة حين تقول إن رؤية نفسها في الفستان الأحمر يجعلها تشعر بأنها حقيقية. وهذا النمط من الاختزال هو اختزال جمالي لفكرة التشييء، حيث لا تشعر المرأة بوجودها إلا إذا رأتها الشاشة. ويجعلنا الفيلم نطرح سؤالا جماليا عن المعنى ما الجمال إذ لم يؤد إلى الحب؟ ما الجسد إن لم يقترن بالاعتراف؟ ما الصورة إن لم تُرَ؟
وتقوم الهوية السردية البصرية للفيلم أيضا على التكرار كوسيلة فنية، لا للضجر وخلق الملل؛ بل للتأكيد. وتتكرر المشاهد والإيقاعات واللقطات لخلق نوع من الإلحاح البصري والنفسي كأن الشخصيات معلقة في حركة دائرية من الانهيار لا تملك الخروج منها، وكأن الزمن نفسه يتواطأ معها ضدها. ولا تظهر الصورة هنا محايدة بل متآمرة تساعد على الانحدار وفعل الانهيار.
ولا يحدث انفراج حتى في اللحظات الأخيرة من الفيلم، لا توجد لحظة خلاص، يسير كل شيء نحو المزيد من العتمة. ومع ذلك، فإن هذا لا يُفقد الفيلم قيمته الجمالية؛ بل يضيف إليه بعدا ميتافيزيقيا، لأن الجمال الحقيقي كما يقول البعض لا يكون في الكمال بل في القدرة على التعبير عن النقص، وعن الجرح، وعن الضعف وعن الألم.
وهكذا، تشكل هوية فيلم “قداس من أجل حلم” توليفة من السرد المتشظي والخطاب الناقد والصورة المضطربة والجمال القاسي. ولا يمنحك الفيلم ما تحب بل ما تخشاه. ولا يرضي الفيلم العين، بل يوقظ الوعي. ولا يروي حكاية بل يروي المأساة. ولا يقدم بطلا بل يقدم إنسانا يتهاوى بهدوء أمام عينك دون أن تستطيع منعه أو مواساته. ولهذا، يظل الفيلم واحدا من أكثر التجارب اكتمالا من حيث الهوية الفنية لأنه يعرف تماما ماذا يريد أن يقول وكيف يصرخ دون أن يرفع صوته.
“قداس من أجل حلم”.. لحظات الاغتراب وفقدان المعنى
يتجاوز فيلم “قداس من أجل حلم” فكرة الإدمان أو السقوط الشخصي؛ بل هو عمل مركب غني بالأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والرمزية والنفسية. وهو نص سينمائي يتقاطع مع قضايا الإنسان المعاصر في لحظة اغترابه الكبرى في زمن العجز وفقدان المعنى. ولا يقدم الفيلم شخصياته كضحايا بيولوجيين أو أخلاقيين؛ بل كنتاج لبيئة مهشمة ونظام معطوب وحلم جماعي كاذب تتورط فيه الذوات دون وعي فيغدو الانهيار الفردي مرآة لانهيارات أوسع.
ويسلط الفيلم الضوء على عزلة الفرد في المجتمع الحديث وعلى تفكك العلاقات الأسرية والهوياتية. وتعيش سارة غولدفار وحدها في شقة صغيرة يزورها ابنها فقط حين يريد سرقة جهاز التلفاز، وهي في صمتها الطويل وأحاديثها المكررة مع الجيران تجسد جيلا كاملا من الأمهات اللواتي لفظتهن الحياة في هامش العمر والوحدة. تقول في أحد حواراتها: “في التلفاز هناك ألوان، في التلفاز هناك ضوء، أما هنا فكل شيء رمادي”. ويختزل هذا القول شعورا اجتماعيا بالضياع حيث يتحول الحنين إلى الماضي إلى وسيلة هروب من حاضر قاسٍ لا يمنح أي نوع من الدفء.
وتعكس العلاقات بين هاري وماري وتايرون بدورها هشاشة الترابط الاجتماعي بين الأفراد، حيث لا تقوم على الحب أو الثقة بقدر ما تقوم على الحاجة والتواطؤ المؤقت من أجل البقاء؛ ما يجمعهم ليس مشروعا إنسانيا بل صفقة متبادلة غير معلنة. ولهذا، تنهار هذه العلاقات بسرعة عندما تدخل في اختبار المعاناة الحقيقية، ويجد كل واحد منهم نفسه وحيدا في مواجهة الجحيم الداخلي والخارجي.
ويتجلى البعد السياسي في الفيلم من خلال نقده الخفي للخطاب الإعلامي والمؤسساتي الذي يصوغ وعي الأفراد ويوجه أحلامهم من خلال صناعة وهم النجاح والقبول والظهور. وتنجرف سارة في الإدمان ليس بدافع اللذة وإنما بدافع الرغبة في الظهور على شاشة التلفاز، حلمها ليس الشهرة بقدر ما هو الاعتراف الاجتماعي. تقول في إحدى اللحظات: “عندما أكون على التلفاز سيحبني الناس، سيتحدثون معي، لن أكون وحدي”. وهذا التمثل يفضح كيف تحولت وسائل الإعلام من أداة ترفيه إلى أداة لإعادة تشكيل الذات وتوجيه الرغبات والتطلعات.
ولا يحضر النظام السياسي بشكله المباشر؛ لكن آثاره متغلغلة في تفاصيل الفقر الذي يدفع تايرون إلى المخاطرة. وهو نتيجة غياب السياسات الاجتماعية الشاملة والتمييز الذي يعيشه كبشرة سوداء في نظام لا يمنحه أي فرصة حقيقية للخروج من مصيره الطبقي والعرقي. وكذلك يظهر النظام الصحي عاجزا أو متواطئا حين يُضخ الحبوب في جسد سارة دون رقيب في غياب أي تتبع طبي جاد وحين يُلقى بها في نهاية المطاف في مصحة للأمراض العقلية كمجرد ملف منسي لا كبشر بروح انسانية تتألم.
ويحضر البعد الاقتصادي للفيلم بقوة في خيارات الشخصيات وأزماتها جميعهم فقراء جميعهم عاجزون عن تحقيق الحد الأدنى من الحياة الكريمة حتى ماري التي تنتمي ظاهريا إلى وسط أفضل تُختزل آمالها في افتتاح محل صغير لتصميم الأزياء. ويتحطم هذا الحلم الصغير بفعل العوز والحاجة إلى المال؛ مما يجعل الشخصيات تلجأ إلى المخدرات ليس فقط للهرب، بل للتجارة.. أي أن الاقتصاد لا يظهر كخلفية، بل كقوة قاهرة تدفع الناس إلى اختيارات يائسة وتفرض عليهم نمطا من العيش قائما على الصفقات لا على القيم.
وتحمل كل شخصية في الفيلم اقتصادا خاصا للعاطفة وللمادة وللجسد. ويحلم هاري بأن يكون منتجا وليس مستهلكا فاشلا؛ لكن المجتمع لا يمنحه أدوات لذلك. وتبيع ماري جسدها مقابل الوهم. ويُستغل تايرون في سوق المخدرات ثم يُلقى به في سجن السوق، وتخضع سارة جسدها كمنتَج يجب تنحيفه وتجميله كي يكون مقبولا من شاشة لا ترحم.
ويكتسب البعد الرمزي في الفيلم عمقه من الاشتغال الدقيق على الصورة والتكرار والمجاز، وكل شيء في الفيلم يعني شيئا أكثر من ظاهره: الثلاجة المتحركة في شقة سارة رمز للرغبة التي تُطاردها وللهاجس الذي يبتلعها. ويمثل الثوب الأحمر رمزا للهوية الماضية التي لم تعد قابلة للاسترجاع، فالفستان هو الماضي المتخيل واللون الأحمر يتحول تدريجيا إلى لون الخطر والخوف.
وتأخذ الشخصيات وضعية الجنين في نهاية الفيلم ليست مجرد لحظة انهيار جسدي بل تعبير رمزي عن العودة إلى الأصل، إلى لحظة ما قبل المعاناة؛ لكنها أيضا لحظة استسلام نهائي للعجز عن المواجهة.. كما تحمل اليد المبتورة لهاري دلالة رمزية مزدوجة؛ فقد كانت اليد وسيلة الحصول على المال والمخدر والحلم لكنها في النهاية تقطع وكأن الفيلم يقول إن ما تصنعه اليد دون وعي قد يُعاقبها بقسوة.
ويمثل البعد النفسي في الفيلم الحضور الأكبر، لأنه يمسك بكل الأبعاد الأخرى ويربطها في شبكة معقدة من الألم والانهيار. وتعاني هذه الشخصيات جميعها من قلق وجودي عميق. وتتمظهر هذه المعاناة على شكل رغبات قهرية. وتبتلع سارة الحبوب وتعيش في وهم التغيير الجسدي لكنها في الحقيقة تحاول معالجة فقدان زوجها وانقطاع التواصل مع ابنها تقول: “أريد فقط أن أكون شخصا يحبه أحد ما”. وتختصر هذه الجملة مأزقها النفسي إنها لا تريد جسدا نحيفا بل قلبا ممتلئا. ويعاني هاري من شعور دائم بالذنب والخسارة. ويلاحق تايرون شبح أبيه الميت وتخاف ماري من أن تُنسى من أن لا تُحب من أن لا تكون جميلة. ولا تبحث هذه الشخصيات عن اللذة بل عن الترميم؛ لكنها لا تجد أمامها سوى أدوات التدمير. ويعكس التكرار القهري للصور والمشاهد، التكرار النفسي للعادة الإدمانية حيث يُظهر أرونوفسكي كيف يتحول الجسد إلى آلة مدمنة تستجيب تلقائيا للمحفزات دون وعي. وهذا الاشتغال الحسي على الإدمان يبرز الجحيم النفسي في أقصى تمظهراته وهو جحيم لا يقع في الخارج بل في الداخل في العقل في الصورة وفي اللغة.
يشكل فيلم “قداس من أجل حلم” أطروحة مرئية عن انهيار الإنسان في عصر ما بعد الحداثة، حين يفقد معنى الذات والجماعة ويُسحق تحت وطأة الخوف والعزلة والصورة والفراغ. لا يقدم الفيلم حلولا؛ بل يعمق الإحساس بأن ما نعيشه ليس فرديا؛ بل بنيويا وأن الحلم إذا لم يُسند بالحقيقة قد يصبح أقصر الطرق نحو الكوابيس ونحو الجحيم. وكما قال أحد شخصيات الفيلم بصوت منهك: “عندما تفقد الحلم، تفقد كل شيء”. وهذا بالضبط ما يفعله الفيلم يجعلك ترى كم نحن على استعداد للتضحية بكل شيء من أجل وهم لا يكتمل إلا حين يحطمنا، وذاك جوهر الحكاية…