أخبار عاجلة
سعد الله ونّوس .. وَحْدَهُ الأَمَلُ -
مذكرات "ليليا" .. عوالم مُتآلفة -

العودة بالسيارة من هولندا إلى المغرب .. ذكريات طفولية لأحفاد الجيل الأول

العودة بالسيارة من هولندا إلى المغرب .. ذكريات طفولية لأحفاد الجيل الأول
العودة بالسيارة من هولندا إلى المغرب .. ذكريات طفولية لأحفاد الجيل الأول

وجاء صيف جديد، صيف سنة 2025؛ لتتجدد معه طقوس العودة لدى مغاربة العالم.

فبعد عام حافل من الكدح والعمل، ها هم مغاربة العالم يتوافدون من أصقاع الأرض، لقضاء عطلتهم الصيفية أو جزء منها، في أحضان وطنهم الأم، المغرب. مشهد يتكرر كل سنة؛ لكنه لا يفقد بريقه وخصوصيته.

لقد كتبت بمناسبة “اليوم الوطني للمهاجر”، خلال السنوات الماضية، مقالات كثيرة، تناولت فيها العديد من المواضيع المتعلقة بمغاربة العالم، مركزا فيها بشكل خاص على تجارب الجيل الأول من المهاجرين؛ ومن ضمنها ما يتعلق بعودتهم السنوية خلال الصيف إلى المغرب. كان وما زال الهدف الأساسي من تلك المقالات هو توثيق جزء من ذاكرة وتاريخ الهجرة المغربية الحديثة، بكل ما تحمله من أحلام وآمال وحنين وتضحيات.

في مقال سابق بعنوان “المهاجرون الأوائل والعطلة السنوية.. زيارات عائلية وتنمية جهوية” نشرته جريدة هسبريس بتاريخ 19 يوليوز 2016 (وهو المقال الذي أدرجته لاحقا ضمن كتابي “لهجرتنا حكايات” والذي صدر عن مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2017)، حاولت أن أنقل ملامح من حياة المهاجرين الأوائل: كيف كانوا يعودون إلى المغرب، محمّلين بالأمتعة والهدايا، وكيف كانت العودة إلى الوطن بعد سنة أو أكثر من العمل المتواصل ليست فقط مناسبة للالتقاء مع الأسرة والأقارب؛ بل وأيضا في إنعاش الاقتصاد المحلي وخلق فرص شغل”… مع وصول المهاجرين، تبدأ حركة اقتصادية نشيطة في المنطقة. وكان أول ما يقوم به المهاجر خلال السنوات الأولى من الهجرة هو بناء منزل جديد بجانب المنزل القديم. وإذ كان معظم المهاجرين الأوائل من الفلاحين، فقد كانوا يقومون أيضا بشراء أراض زراعية جديدة وغرسها وحفر آبار للمياه؛ ما كان يساهم في إنعاش الاقتصاد المحلي وخلق فرص للعمل لفائدة أبناء المنطقة. ومن المظاهر الجديدة التي صاحبت الهجرة كذلك قيام المهاجرين بإصلاح مساجد دواويرهم وقراهم وبناء صوامع لها وتجهيزها بمكبرات الصوت”.

لكن، ماذا عن الأجيال الجديدة؟ ماذا عن أبناء وأحفاد رواد الهجرة من جيل البناة الذين وُلدوا ونشأوا في أوطان جديدة، في بلدان الاستقبال؟ كيف عاشوا تجربة العطلة الصيفية إلى وفي الوطن الأم؟ هل كانت بالنسبة لهم مجرد عطلة عادية؟ أم كانت تجربة تحمل، بجانب طابعها الترفيهي، مضامين ثقافية وهوياتية دفينة؟

للاقتراب أكثر من أجوبة عن هذه الأسئلة، طلبت من أبنائي الثلاثة – أيمن (36 سنة) ورندة (32 سنة) ومنتصر (27 سنة) ـ إنجاز “واجب منزلي” صغير: أن يكتب كل واحد منهم موضوعًا عن ذكرياته حول قضاء العطلة الصيفية في المغرب، حين كان طفلا. أردت من خلال هذه المبادرة أن أفتح نافذة على ذاكرة الأجيال الجديدة، وأن أُعطي الكلمة لهؤلاء الذين قليلا ما نسمعهم يحكون عن مثل هذه التجارب.

في هذا المقال، سأشارك معكم حصيلة الواجبات المنزلية الثلاثة. ثلاث شهادات تعكس بتلقائيتها وبساطتها جزءا من تجربة عاشها أبناء وأحفاد الجيل الأول عن صيفياتهم الطفولية، بما تحمله من نوستالجيا واكتشافات وتحديات، وربما أيضًا بعضا من التجاذب الهوياتي وحنين معقّد.

أيمن

قبل أسابيع من بداية العطلة الصيفية، بالكاد كنا نستطيع إخفاء حماسنا. كنا نخطط ونتخيل مع زملائنا في الصف كل ما سنقوم به في المغرب. كانت التوقعات المسبقة ممتعة بقدر متعة الرحلة نفسها. كنا ننتظر بفارغ الصبر حلول الصيف لزيارة بلد الوالد والوالدة، إلى جذورنا، إلى الشمس والمغامرات.

التحضير للرحلة كان طقسًا ثابتًا. كنا نحرص على أن نحمل ما يكفي من اللعب والكتب وبعض الألعاب الإلكترونية لنلهي أنفسنا أثناء الطريق؛ لأننا كنا نعرف أمرًا واحدًا يقينًا: ستكون رحلة طويلة وحارة. ففي تلك الأيام، لم تكن السيارات مزودة بمكيفات الهواء، حيث يصبح السفر في سيارة مكتظة عبر جنوب أوروبا يعني أساسًا: الحرارة والعرق؛ لكن هذا كله كان جزءًا من التجربة.

في محطات الاستراحة، كانت هناك متعة خاصة في محاولة رصد السيارات ذات اللوحات الهولندية. وما إن نرى واحدة منها، حتى نبدأ عمداً بالتحدث باللغة الهولندية بصوت مرتفع — وكأننا نشعر برابط غير مرئي مع المسافرين الآخرين الذين كانوا يخوضون الرحلة نفسها مثلنا.

وكلما توغلنا جنوبا، ازدادت الحرارة. وعندما كنا نصل أخيرًا إلى ميناء الجزيرة الخضراء ونصعد على متن السفينة، كنا ندرك أننا شارفنا على الوصول. وكانت اللحظة التي نرى فيها المغرب من الجانب الآخر من الماء لحظة سحرية. في هذه اللحظة بالذات، ينتابنا شعور بأن العطلة قد بدأت فعلاً — العطلة التي انتظرناها طويلًا.

وعند وصولنا، كان من المدهش دائمًا كم كنت أستعيد التواصل بالدارجة المغربية بسرعة. في هولندا، تعودنا على خلط العربية والهولندية، خاصة عندما لا نجد الكلمة المناسبة؛ لكن في المغرب لا ينفع ذلك — هناك يجب أن تتكيف حقًا. وكان ذلك يحدث دائمًا أسرع مما كنا نتوقع.

لقد كانت رحلات عطلنا الصيفية إلى المغرب خلال سنوات التسعينيات مليئة بالانطباعات والتقاليد والطقوس الصغيرة التي كانت تتكرر كل عام أو عامين. رحلات عشتها كطفل بكل جوارحي، وظلت محفورة في ذاكرتي كأجمل ذكريات الطفولة.

رندة

كنتُ وأنا طفلة أنتظر بشوق كبير حلول عطلة الصيف للسفر مع والديَّ وإخوتي من هولندا إلى المغرب. كانت الرحلة بالسيارة تبدو لي وكأنها مغامرة عظيمة. أكثر ما كنت أستمتع به هو عندما كنا نلتقي طوال الطريق بمغاربة هولنديين آخرين عند محطات الوقود وفي أماكن الاستراحة، كلنا في طريقنا نحو الهدف نفسه: العودة إلى وطننا الأم. وقد كان ذلك يمنحني شعورًا خفيًا بالفخر والانتماء.

كانت إسبانيا بالنسبة لي ذروة الرحلة. كانت تسحرني بمناظرها الطبيعية الخلابة. تماثيل الثيران السوداء الكبيرة على الهضاب المشرفة على الطريق السريع كانت تثير دهشتي الطفولية. في الليل، نتوقف في إحدى محطات الاستراحة المزدحمة. فبينما كان والدي يستريح في السيارة، كنا نلعب في الخارج مع أطفال غرباء آخرين يشاركوننا الوجهة نفسها. ويكون الأمر أكثر متعة عندما كنا نسافر مع أقارب آخرين خلال الرحلة نفسها، إذ كنت أقضي كل الوقت في اللعب مع أبناء وبنات أخوالي. حتى الانتظار في الميناء للعبّارة التي ستقلنا إلى المغرب كان ممتعًا بالنسبة لي. أحيانًا كنا ننتظر لساعات؛ ولكن كان ذلك يمنحنا وقتًا كافيًا للعب في الخارج واستكشاف المكان. كانت فترة مميزة مليئة بالمرح، والشعور بأننا في طريقنا نحو شيء جميل.

في الطريق كنا غالبا ما نأكل سندويشات التونة والبيض والجبنة – كانت بسيطة؛ لكنها لذيذة إلى درجة أنني ما زلت حتى اليوم أتذكر تمامًا كم كان طعمها شهيًا. لم تكن هناك مظاهر لرفاهية باذخة، أو وجبات فاخرة؛ لكننا لم نكن نلقي بالا لذلك. كنا نستمتع بكل لحظة بصدق. كانت أبسط الأشياء تسعدنا. اللعب في أماكن الاستراحة فقط كان كافيًا لنقضي ساعات من المرح. لا تلفزيون ولا دراجات، فقط حرية اللحظة وصدق اللقاء. من المدهش كم كنا نشعر بالغنى رغم قلة ما كنا نملك. كانت تلك الرحلات درسًا مبكرًا في البساطة والرضا والانتماء.

منتصر

كنت في السابعة من عمري عندما عشت أول عطلة لي إلى المغرب بوعي تام. كنت ألعب كرة القدم مع أصدقائي في الخارج عندما ناداني والدي. كانت سيارة المرسيدس واقفة أمام باب المنزل، وعلى سطحها حاملة الأمتعة مغطاة بغطاء بلاستيكي برتقالي اللون. ودّعت أصدقائي دون اكتراث، صعدت إلى السيارة وانطلقنا. بدأت العطلة منذ لحظة الانطلاق: ضحك، ولعب، وشجارات مع أخي وأختي، وتأمل في الجبال والمناظر الطبيعية من نافذة السيارة، مناظر لا وجود لها في هولندا.

عندما وصلنا إلى ميناء الجزيرة الخضراء لركوب الباخرة، اشتد شوقي إلى المغرب. هناك، في الجانب الآخر من البحر، يقع وطن أبي وأمي وأجدادي.

وما إن وصلت الباخرة إلى الضفة الأخرى، حتى شعرت بأنني في بيتي. رائحة الهواء، ضجيج الشوارع، الدارجة المغربية التي تُسمع في كل مكان..

سافرنا عبر ربوع المغرب: جبال مراكش، وسواحل أكادير، والمدن العتيقة لفاس ومكناس، وقريتنا في الريف، والمنزل الذي ولد فيه والدي في تطوان. استمتعت بكل لحظة؛ ولكن حين حل موعد العودة، انتابني شعور بالحسرة لمغادرة المغرب. كنت سأعود إلى هولندا، البلد الذي وُلدت وتربيت فيه؛ لكنه لم يمنحني قط شعورا بالانتماء الحقيقي.

كان لتلك الإجازات الصيفية دور كبير في تنمية الشعور بهويتي كمغربي وكمسلم؛ لكن ذلك لم يحدث تلقائيًا. لقد قدّم والداي تضحيات كبيرة كي يأخذونا معهما في كل مرة، رغم مسؤولياتهما ومشاغلهما. لقد كان لجهودهما الفضل الكبير في استمرار ارتباطي بالمغرب، وفي أنني اخترت، لاحقًا وبوعي، أن أعود إلى المغرب من جديد؛ وهذه المرة لأقيم فيه بشكل دائم.

خاتمة

قد تبدو هذه الشهادات مجرد ذكريات أطفال ولدوا في الغربة؛ لكنها تخبئ بين سطورها قصة أعمق: قصة جيل لم ينسَ جذوره، وجعل من كل عطلة صيفية فرصة للبحث عن هوية افتقدها في البلد الذي ولد فيه، وعودة إلى الوطن الذي غادره الجيل الأول ذات مرة، ليسكن وجدان الأجيال اللاحقة.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق قرار حاسم في الأهلي بشأن التعاقد مع كوكا لتعويض وسام أبو علي
التالى فليك يستبعد ثلاثي برشلونة من قائمته لجولته التحضيرية.. موقف راشفورد