تشهد الساحة الدولية تحولًا واسعًا وغير مسبوق في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة، والجدير بالذكر أن ذلك التمادي تسبب في انتفاضة دولية سريعة النطاق، والآن بات هناك 30 دولة تطالب بإنهاء الحرب التي تدور منذ ما يزيد عن عامين والتي تسببت في سقوط آلاف الضحايا وتدهور كارثي للوضع الإنساني وصولًا إلى المجاعة في القطاع.
المثير للانتباه في ذلك البيان ليس صراحته في إدانة الممارسات الإسرائيلية، بل في تركيبة الدول التي وقعت عليه، حيث أن القائمة ضمت 20 دولة أوروبية، بجانب كندا وأستراليا واليابان ونيوزيلندا، مما يجعل منه صرخة من قلب المعسكر الغربي الذي طالما دعم إسرائيل، وذلك التمرد الذي يمثل غالبية بلاد الناتو يعكس تحولاً عميقاً يتعدى مجرد الدعم في إنهاء الحرب وحقوق الفلسطينيين، ليدل على إعادة التشكيل المحتملة للنظام الدولي.
وذلك البيان الذي قامت بريطانيا بالإعلان عنه يسلط الضوء على تراجع النفوذ الأمريكي مع قدرتها على فرض رؤيتها على حلفائها، ويعود ذلك التراجع بشكل جزئي إلى سياسات واشنطن، مثل الرجوع إلى زمن التعريفات الجمركية والموقف المتراخي تجاه أزمة أوكرانيا، والتي يراها العديد أنها انقلاب على ثوابت المعسكر الغربي، وعليه فإن الإجماع غير المتضامن إزاء إسرائيل يعتبر انقلابا مضادا ليس فقط ضد أمريكا بل ضد أحد أهم ثوابت العرب التاريخية في دعم فلسطين.
وقد سبق ذلك التغيير في الموقف الغربي العديد من المؤشرات، من أهمها اعتراف دول أوروبية مثل إسبانيا بالدولة الفلسطينية من ناحية واحدة بدون تشاور مع واشنطن، بجانب تقارب أوروبي مع قوى دولية أخرى مثل الصين، والعديد من المواقف الأكثر استقلالية تجاه إيران، وتلك التحركات تدل على مسار جديد في العلاقة بين واشنطن وحلفائها، يقوم على علاقة الند بالند بدلاً من التبعية.
كما يعكس ذلك التحول رغبة البلاد الموقعة على البيان في استعادة الشرعية الأخلاقية التي تخلت عنها الولايات المتحدة، وبعد عقود من استخدام مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية باعتبارها ذريعة للتدخل، فإن البيان يمثل فرصة لتلك الدول من أجل تقديم نفسها كقوى قادرة على سد الفراغ الأخلاقي، لاسيما إذا تعلق الأمر بحياة الذين يعانون ويلات الحروب ذات الأمد الطويل.
ومن ذلك المنطلق، يتضح الدور المحوري للدبلوماسية المصرية التي تمكنت من بناء توافقات دولية غير مسبوقة حول القضية الفلسطينية وتحويلها إلى شبه إجماع، وقد تجلى هذا في مواقف دول مثل إسبانيا، والتي كشفت عن اعترافها بفلسطين، أمام معبر رفح، وفي الشراكات المصرية مع الاتحاد الأوروبي وقوى أوروبية تقليدية، مثل فرنسا وبريطانيا، بجانب توسيع نطاق تأثيرها ليشمل العديد من الدول البعيدة جغرافيا عن الصراع، مثل جنوب أفريقيا التي رفعت دعوى قضائية ضد الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية.
ومنذ قمة القاهرة للسلام، تحولت المواقف الأوروبية بشكل جذري من التذرع بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس إلى الإدانة، ومن ثم الاعتراف الأحادي بدولة فلسطين، ووصولًا إلى ذلك الإجماع الصارم على ضرورة إنهاء الحرب.
وذلك البيان الذي صدر عن ما يزيد عن 25 دولة يعتبر بمثابة طفرة، وليس فقط في إدارة الصراع، بل في إدارة العملية التفاوضية كونه ورقة ضغط هامة على أطراف الصراع، وخاصة إسرائيل، للرضوخ لرغبة المجتمع الدولي بإنهاء الاقتتال.
نهايةً، إن حرب غزة، وعلى الرغم من تداعياتها الواسعة على إعادة هيكلة القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، تبدو علامة فارقة في النظام الدولي بالكامل، كما أنها تسلط الضوء على سعي قوى معينة نحو أدوار أكبر وأكثر استقلالية، وتؤكد في الوقت نفسه على الدور المحوري الذي لعبته القوى العربية الفاعلة، وفي مقدمتها مصر، في إدارة القضية المركزية، لتثبت القاهرة مكانتها كفاعل أساسي قادر على صياغة الإجماع في لحظة إعادة تعريف النظام الدولي.
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.