لطالما افتخرنا كأي أمة عظيمة برجالاتها وأمجادها وسلاطينها وملوكها الكرام، وأسهبنا طول الأرض وعرضها بالحديث عن إنجازات المغاربة في الداخل والخارج، سواء في مجال الجهاد البحري أو الرحالات أو السفراء من طينة بن عائشة وغيرهم. ووقفنا ما يلزم من الوقت للحديث عن الشريف الإدريسي والحسن الوزان وحسن العطار، وغيرهم من المغاربة الذي ساهموا في تغيير العديد من مجريات التاريخ بعلمهم الوفير وذكائهم الوقاد.
كما أفردنا مساحات كبيرة لمسارات مغاربة العالم المميزين والمبدعين والموهوبين في الوقت الحالي. ويكفي ذكر رشيد اليزمي ومنصف السلاوي وكوثر حفيظي وأسماء بوجيبار ونجاة بلقاسم ورشيدة ذاتي، ولائحة طويلة من عمداء المدن ورؤساء مختبرات علمية وسياسيين وإعلاميين في بلدان إقامتهم.
وكان من حقنا أن نطلق العنان لخيالنا لنرسم صورا رائعة لكل هؤلاء وغيرهم من مغاربة العالم المتميزين والمبدعين.
فهل كان يكفي أن نرسم بورتريهات جميلة ومتفائلة عن هؤلاء الموهوبين؟ ولماذا نتراجع خطوة إلى الوراء عند كل حادث عنصري أو عنف غير مبرر ضد مغاربة العالم؟
اعتقد أن حادثة “توري باتشيكو” بإسبانيا وما تعرض له مغاربة يشتغلون في حقول مورسيا وفنادقها من بلطجة وتهديد من طرف اليمين المتطرف الإسباني فوكس، وكذا الرد القوي للوزيرة رشيد ذاتي من داخل مؤسسة تشريعية، يدعونا لإعادة ترتيب أوراقنا والتفكير بكل جدية؛ لأن تلك الأحداث لا تنسب للصدفة الصرفة، بل هي حلقة صغيرة من صراع وجودي وأيديولوجي كبير يتزعمه اليمين المتطرف في فرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا وهنغاريا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا.
في المقابل، لا يجب أن تدفعنا ضرورة إعادة صياغة أفكار جديدة وسردية جديدة للتمادي في الانتقاد المجاني أو جلد الذات، بل أن أطراف المعركة لا تخطئها العين؛ فهي من جهة سردية اليمين واليمين المتطرف وأجندته السياسية وشعاراته بالحفاظ على الدين المسيحي والأسرة والبنية الديمغرافية الأوروبية والحدود السيادية، مقابل سردية إنجازات مغاربة العالم من جهة ثانية، بالتذكير بكل ما يلزم من إنجازات من رحم المعاناة والتعلق الشديد لمغاربة العالم بوشائج الهوية والثقافة المغربية ودفاعهم عن المقدسات الوطنية والترابية ومغربية الصحراء والمساهمة في التنمية والتضامن الاجتماعي.
وفي خضم هذا الحلم الجميل تأتي صرخة الوزيرة رشيدة ذاتي من داخل مؤسسة تشريعية فرنسية عريقة وقولها بكل قوة: “أنا لست عاملة نظافة”، مع التذكير أن رشيدة ذاتي هي وزيرة لأكثر من مرة وقيادية من الصف الأول في حزبها وحملت حقائب وزارية وازنة كحاملة الأختام (وزارة العدل)، ووزارة الثقافة، أي الوصية على الثقافة والتراث الحضاري والثقافي والديني الفرنسي.
وفي الأسبوع نفسه ستتعرض نجاة بلقاسم، وهي الوزيرة السابقة، لحملة قوية من طرف اليمين المتطرف بعد تعيينها في منصب قضائي مرموق، مستعبدين معيار الاستحقاق للسيدة نجاة بلقاسم.
لا أعتقد أن مغاربة العالم الذين اختاروا العمل السياسي والانخراط الحزبي والنقابي والإعلامي كانت طريقهم مفروشة بالورود، بل مقاومة يومية ومجهود مضاعف من أجل الاستمرار بالوقوف في وجه تيار اليمين المتطرف بأوروبا. لذلك، لا أعتقد أن مسارات خديجة عريب مثلا بهولندا أو فؤاد احيدار ببلجيكا خرجت عن مساحة الصراع وإثبات الذات.
وهناك العديد من هذه العينة التي صمدت في وجه اليمين المتطرف وبصمت بالنجاح. وأخرى تأخرت أو تراجعت نتيجة مضايقات اليمين المتطرف وآلته الإعلامية الرهيبة.
لذلك، نحتاج اليوم لكل نخب المغرب والأقلام والمؤثرين بالخارج من أجل الانخراط في عمل جماعي لصياغة سردية مغربية جديدة تقارع سردية اليمين المتطرف بأوروبا.
كما يجب قبول النقد الذاتي الإيجابي والبناء؛ لأننا لم نستطع إلى حد الآن الحصول على عدد كاف من الأعمال الفكرية والأدبية تنتصر لمسارات إيجابية لكل مغاربة العالم، بدءا من بن بطوطة والأزموري وغيرهما، مرورا بكل تلك الاحتفالات الباهتة التي تقام على شرف الجنود المغاربة المشاركين في الحرب العالمية الثانية لتحرير أوروبا من الفاشية والنازية.
أعتقد أن السردية الجديدة يجب أن تنطلق من إعادة مراسيم تلك الاحتفالات الفلكلورية التي تحتفظ بكليشهات تغذي المخيال الجماعي الأوروبي حول المغاربة، حيث يقف مجموعة من الشيوخ في أرذل العمر فخورين بنياشين الشجاعة على صدروهم ينتظرون السلام على رئيس الدولة أو مسؤول كبير. في حين كان المفروض هو الاهتمام بوضعهم الصحي والمادي والقانوني أولا، لدورهم الكبير في التعجيل بسقوط الفاشية والنازية.
كما يجب الاعتراف بالتقصير الجماعي في حق هؤلاء الأبطال؛ إذ قليلة هي القصص وروايات بطولاتهم وتضحياتهم من أجل أوروبا ديمقراطية وحرة. وقليل عدد الوثائقيات والأفلام التي تحكي عن أبطال مغاربة روت دماؤهم أراضي وسهول وجبال أوروبا، وكانوا رفقاء خندق الحرية في حرب عالمية.
لقد كدنا أن نغرق في أدب مهجر يغرف من النوستالجيا ويغذي بدون قصد بعض عناصر المخيال الأوروبي عن المهاجر المغربي المسلم. وهناك لائحة طويلة من الإنتاجات الفكرية والأدبية تتحدث عن بعض جوانب الحياة الأسرية والاجتماعية المغربية كانت موضوع جوائز أدبية أوروبية؛ لأن بعض اليمين المتطرف كان يحتاج فقط إلى “وشهد شاهد من أهلها”.
فهل كانت ستفوز رواية تتحدث مثلا عن بطولات ومواقف مغربية فاصلة في معادلة النصر في الحرب العالمية الثانية؟
لا أعتقد ذلك؛ لأن اليمين المتطرف ذاته وآلته الإعلامية ومجموعاته المالية والاقتصادية التي سماها بعض الكتاب والباحثين في التاريخ المعاصر بـ “سادة العالم”، لن يسمح بسردية جديدة تمجد دور آباء المهاجرين المغاربة أو الأفارقة في تخليص أوروبا من الفاشية والنازية.
وهو ما نلاحظه في إيطاليا مثلا مع أحداث “الماروكيناتي”؛ إذ لم نستطع هناك أيضا إنتاج سردية جديدة منافسة بإمكانها تغليب دور “جنود القوم” المغاربة في معركة مونتي كاسينو سنة 1944 على عمليات اغتصاب جماعي عوقب فاعلوها سواء بالرمي بالرصاص في حينه أو عبر محاكمات قضائية.
فالسردية الجديدة تقتضي إنصاف جنود مغاربة سقطوا بالآلاف في جبال إيطاليا ووقفوا بصدور عارية وأسلحة خفيفة أمام طيران أدولف هتلر، وقوات الفاشي موسوليني في وسط وشمال إيطاليا.
وواقعة الماروكيناتي تعتبر إحدى أهم النقط الشائكة والواجبة التفكير؛ لأن اليمين المتطرف الإيطالي اشتغل على تغذية المخيال الجماعي المحلي بأن المهاجر المغربي الحالي هو ابن ذلك الجندي الذي قام بعمليات اغتصاب جماعي.
وقد تنوعت مجالات توظيفه لهذه الواقعة من تقارير ودعاوى قضائية إلى روايات وكتب تحول بعضها إلى أفلام، كـ “لا تشوتشارا” من بطولة صوفيا لورين التي فازت عن دورها بأوسكار.
هذا بالإضافة إلى عشرات الوثائقيات والأفلام القصيرة التي تتحدث عن مجموعة جنود مغاربة كانت تأخذ أوامرها من القيادة الفرنسية؛ لأن القوات المسلحة الملكية لم تؤسس إلا في سنة 1956.
لقد كانت صرخة الوزيرة رشيدة ذاتي تلك القطرة التي أفاضت الكأس. نعم لقد انتهى، ونحن الآن في بداية عهد جديد وطريق جديد يلزمنا أدوات جديدة. نعم لقد انتهى زمن السردية الوحيدة ويلزمنا كتابة جماعية لسردية تساهم فيها القوى الحية إلى جانب الفاعل الديني والسياسي والإعلامي والباحثين في علوم الاجتماع، عنوانها “رفقاء في الخندق شركاء في المواطنة في بلدان الإقامة”.