بين “الإطلاقية والنسبية”، يستمرّ بالمغرب نقاش “الرموز” من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مع ما يرافقه من صراعات على تأويل التاريخ الحديث والمعاصر مع جذور تمتدّ إلى ما هو أبعد، وصراعات من أجل “الاعتراف” تبدأ باتهامات “التحامل”، مرورا بـ”الافتراء”، وصولا إلى “الخيانة”.
ومن أحدث مستجدّات هذا بالمغرب، نقاش واسع في صفوف جمعيات مدافعة عن الأمازيغية ومواطنين غير منتمين، بعدما نقل الباحث في التاريخ عبد الحق كلاب، المدافع بدوره عن الأمازيغية، شهادة عن مواطن عرّف نفسه بكونه صديقا للفاعل الأمازيغي المُغتال عمر إيزم.
ويرى الناشط المدافع عن حقوق الإنسان فؤاد عبد المومني أن هذا النقاش عرَضٌ متكرّر في أوساط سياسية وثقافية من انتماءات متعدّدة بالمغرب، قائلا: “ليست هذه أول مرة ترفض فيها فرق مختلفة نقاش الأفكار فتذهب إلى القذف والتكفير، ويكفي في هذا الباب التذكير بالرجة السيكولوجية التي أصابتنا في اليسار لما أشاعت مصادر إسرائيلية أن المهدي بن بركة كان على علاقة ببعض استخبارات أوروبا الشرقية أيام السوفيات للحصول منها على المعلومات والأمن، وربما المال والسلاح”، وقرأ “ردود أفعالنا العصبية” بأنها “ظروف تخفيف في ضعف تراكمنا المعرفي والتاريخي، وفي كَوْن نخبنا ومثقفينا ما زالوا بعيدين عن مستويات النضج العالية”.
وأضاف عبد المومني: “تعرض السيد عبد الخالق كلاب لهجومات لاذعة إثر تصريحه بأن مقتل عمر خالق إزم كان بسبب خلافات شخصية تنتمي لفضاء الحق العام، وليس جريمة سياسية. ولم تناقش الهجومات، التي ساهم فيها أشخاص أكن لهم كامل التقدير، المعطيات التي يدعي السيد كلاب اعتمادها في تصريحه، بل ترفض أصلا النقاش وتعتبر أن كلامه ينم فقط عن مؤامرة ضد الحركة الأمازيغية ورموزها”.
وزاد عبد المومني في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية: “يوجد المستوى المباشر، وهو من ماتوا وصاروا رموزا، لكن كل قبيلة سياسية عندنا لها الأشخاص المحرم الحديث عنهم، فلا أحد اليوم يتجرأ، مثلا، على مناقشة عبد الرحيم بوعبيد، أو مناقشة عبد الرحمان اليوسفي عند آخرين، وفي اليسار الراديكالي مناقشة أبراهام السرفاتي، وفي تجربة أخرى إدريس بنزكري”.
ثم استرسل قائلا: “كل الحركات تحتاج خلق أيقونات، لكن هذه الأيقونات تصير سجنا للأطر والمناضلين والمتعاطفين مع هذه الحركات في ميثولوجيا تجعل الزمن الذهبي المفقود لهؤلاء الناس الذين لم يكونوا بشرا في مصاف الآلهة، وتثبط عزائم قدرات الأجيال الصاعدة، وتحنّط الفكر والكذب على التاريخ؛ لأنه عندما تجلس مع من عاشروهم، ومن عاينوا مسارهم تجد أمورا أخرى؛ فمن سيتجرأ على القول بأن محمدا جسوس لم يترك أي إنتاج باستثناء خطب ودروس في القسم؟”.
وفي حالة الاغتيال والجرائم، شدّد عبد المومني على ضرورة “المحاسبة”. ثم استدرك: “لكن ينبغي أن يناقش الأشخاص والأحداث بالقدرة على التجاوز التاريخي، لا خلق أساطير مطلقة؛ يصير معها المؤمنون بها في مواجهة مطلقة مع من اختلفوا معه، ومن قتلوه”.
ولا يعني “التجاوز” وقف النقاش والتفاعل بين مختلف الانتماءات والآراء، بل يعني أن “الحقيقة تقتضي البرهان والإقناع، بناء على تمحيص المعطيات ومقارعة التحاليل، وليس اعتبار الحقيقة هي ما قالته القبيلة، وأن من يجرؤ على النقاش هو بالضرورة عميل للغير ومُضَلِّل وخائن”، مردفا: “الحقيقة يبنيها البحث التاريخي، ولا يزدهر البحث التاريخي إلا إن أحس القائمون به بأنهم في مأمن من العصبيات وأنهم لن يتعرضوا لسوء شنيع حتى وإن هم اختلفوا مع الأغلبية أو أخطؤوا في بناء سردياتهم”.
وتابع الفاعل الحقوقي قائلا: “حقيقة العنف في تاريخنا السياسي عامة ونسبية؛ عامة بمعنى أن عناصر من كافة التيارات مارستها، دون أن يعني ذلك التيارات ككل، قواعد وقيادات ومتعاطفين قد تورطت في اختيارها وتخطيطها وإنجازها والتستر على مرتكبيها؛ لذا، يجب الخروج من منطق أن الآخر هو الشر المطلق وهو من أجرم وحده، وأننا كنا الضحايا الوديعة التي كانت دائما تمثل الحقيقة والسلام”.
وذكر عبد المومني أنه مع كونه “من أشد المتحفظين على ما سُمَّي مسلسل الإنصاف والمصالحة”، لأنه رأى فيه “شرعنة الاستبداد، وليس القطع معه”، إلا أن هذا لم يمنعه من الاحتفال بـ”صدح المرحوم أحمد حرزني خلال شهادته بالدعوة إلى الاعتراف المتبادل والتصالح الجماعي قائلا :”الله يرحم الحسن الثاني، الله يرحم دهكون، الله يرحم مصطفى الوالي، الله يرحم سعيدة، الله يرحم الجميع…”.
لماذا هذا الاحتفال؟ يجيب المتحدّث: “الغاية ليست ادعاء امتلاك الحقيقة والحق التاريخي، بل بناء مجال للعيش المشترك يمكن ضمنه أن نختلف دون أن نتناحر، وأن نتقدم في تحجيم أثر اختلافاتنا على جودة عيشنا المشترك، وتطوير قدراتنا على التقدم الجماعي مع استمرار اختلافاتنا”.
واستحضر فؤاد عبد المومني شعارا أثيرا في الوقفات والحلقيّات هو “من يكرِم الشهيد..يتبعْ خطاه”، معقّبا: “لقول الشاعر هذا تأويلات وفق الغايات التي نتوخاها؛ فإما أن نعتبر أن دم الشهيد يحتم علينا القتال الأبدي ضد من أعدمه وكل من انتمى لقبيلته أو آمن بأفكاره، ويعني هذا أن حروب داحس والغبراء ستستمر إلى أن تفنى الأرض بين المخزن والمعارضين، وبين الإسلاميين والتقدميين، وبين الأمازيغيين والعروبيين، وبين الوحدويين والاستقلاليّين، وبين المغاربة والجزائريين، وبين المغاربيين والأوربيين، ولربما بين كل عَدْوَتين متجاورتين كالرباط وسلا، أو فاس ومكناس، أو طنجة وتطوان… أو ننطلق في تحديد أولوياتنا من مستقبل أجيالنا وليس من ماض كنا نخرج فيه من مراهقتنا. وأن نبني، أخيرا، وطنا يتسع للجميع، ويسمح للكل أن يدافع عن قناعاته بدون الحاجة لنفي الآخر”.