في مدينةٍ بعيدة، كان هناك مسرح قديم، يتجمع فيه الناس كل مساء، يصفقون بحماس، ويهتفون بأسماء الراقصين على الخشبة، حتى خُيل للجميع أن الخشبة وطن، وأن الرقص عهد لا يُنقض.
وكان من بين هؤلاء الراقصين فتى موهوب، علق الناس صورته على الجدران، وكتبوا اسمه على صدورهم، وتغنوا بوفائه أكثر من موهبته.. أحبوه بصدق، لكنه لم يكن يملك شيئًا سوى قدميه.. وأحلامه.
وذات مساء، جاءه رسول من مدينة أخرى، بمسرحٍ أكبر، وأجرٍ أعلى، وقال له: "لن تكون مجرد راقص هنا.. ستكون نجمًا".
تردد الفتى، ليس لأنه لم يرغب، بل لأنه كان يعلم أن الجمهور لا يغفر.. لا يغفر لمن يترك الخشبة، حتى لو تآكلت، ولا يغفر لمن يطارد الضوء، حتى لو كان يستحقه.
لكنّه في النهاية.. رحل.
لم يكن خائنًا، ولا جاحدًا، ولا متقلب الهوى.. كان فقط لاعب كرة، يمتهن مهنة، ويتبع رزقه، كما يفعل أي موظف في أي مؤسسة.
لكنّ الجماهير -كعادتها- لم ترَ إلا نصف الصورة.. راحت تتحدث عن "الوفاء"، وتنوح على "ابن النادي"، وتستدعي صورًا من زمنٍ آخر، كان فيه الخطيب وحسن شحاتة.. أو أبو تريكة يرفض الملايين من أجل القميص الأحمر، وحازم إمام يعتزل في صمت لأن الزمالك فقط هو الحب الأول والأخير.
ذلك الزمن رحل.. وتركنا مع واقع مختلف، لم يعد فيه اللاعبون فرسانًا على خيول بيضاء، بل صاروا محترفين يحملون سيرة ذاتية، ويقرأون البنود الدقيقة في العقود، ويستمعون جيدًا لما تقوله الأرقام، لا ما تهمس به العواطف.
اليوم، اللاعب موظف.. والملاعب عقود.
والولاء؟ أصبح خيارًا إنسانيًا نادرًا، لا فرضًا مقدسًا.
نحن نطالبهم بما لا نطالب به أنفسنا.. نطلب من اللاعب أن يرفض عرضًا مغريًا لأجل الشعار، بينما نغير وظائفنا لأقل من ذلك بكثير.
من الذي كسر مسطرة الرومانسية؟
نُدين رحيلهم، وننسى أن كثيرًا منهم خرج من مدن بعيدة، لا يملك واسطة، ولا سندًا.. فقط موهبة، وأمل، وصبر، وكرم من الله وحده.
ربما علينا أن نتوقف عن قياس حاضر الاحتراف بمسطرة الرومانسية القديمة.
ربما آن الأوان أن نرى اللاعبين كما هم: بشر. يسعون، يخطئون، يفاوضون، ويبحثون عن أمنهم الشخصي، ومستقبلهم في لعبةٍ لا ترحم من يتأخر خطوة.
الخشبة لم تعد مسرحًا للحب فقط، والملعب لم يعد "بيتك الأول" كما يُقال في التصريحات.. هذا زمن مختلف.. بكل ما فيه.