بينما تتحدث الحكومتان الجهوية والوطنية عن التهدئة والتعاون، تنفجر شوارع طوري باشيكو بجهة مورسيا على وقع مطاردات عنصرية عنوانها “صيد الموروس”. أعمال عنف ممنهجة ضد المهاجرين المغاربة فجّرتها حادثة اعتداء شاب مغربي على مسن إسباني، لكنها كشفت سريعا عن نزعات أعمق: تاريخ من الكراهية المركونة في اللاوعي الجماعي، تستحضر طرد الموريسكيين، وتعيدنا إلى ذكرى أحداث “إيخيدو” سنة 2000.
هل ما يجري الآن حادثة عابرة أم إننا أمام مشهد متكرر من نزاع دفين بين إسبانيا وذاكرتها الموصومة بـ”الخطر المغربي”؟ وما حدود الخطاب الرسمي عندما يصرخ المجتمع أو غالبيته بخلافه؟
ما الذي حدث في طوري باشيكو؟
اندلعت الأحداث بعد انتشار مقطع مصوّر يُظهر اعتداء مجموعة من الشباب من أصل مغربي على رجل مسن. وفي غضون ساعات، تحوّلت مدينة طوري باشيكو إلى ساحة مطاردات ليلية على طريقة الكوبوي، يقودها متطرفون يمينيون تحت شعار “الانتقام”.
شهدت الليالي التالية اعتداءات بالضرب والتخريب طالت منازل ومزارع يسكنها مهاجرون، أغلبهم عمال زراعيون. الشرطة تدخلت متأخرة، واعتقلت أشخاصا عدة، بينما تتابعت دعوات من اليمين المتطرف لمواصلة “تأديب الأجانب”، في مشهد يعيد إلى الأذهان أحداث إل إيخيدو سنة 2000.
قبل 25 عاما، في بلدة “إل إيخيدو” الفلاحية، هاجم سكان محليون المهاجرين المغاربة لثلاثة أيام متواصلة، بعد جريمة قتل ذهبت ضحيتها شابة إسبانية. الحصيلة: عشرات الجرحى، ممتلكات مدمّرة، وصمت حكومي مشين.
تشابُه الأحداث اليوم مُذهل: العنف يبدأ من جريمة فردية ويُنسب إلى جماعة إثنية عرقية، ثم يتحول إلى مذبحة رمزية تهدف إلى “إعادة النظام”، حيث يصبح المهاجر دوما “الآخر المتّهم”، حتى دون دليل.
الذاكرة العميقة: من الموريسكيين إلى المغاربة
ما يلفت الانتباه في طوري باشيكو ليس فقط العنف، بل الكلمات التي رافقته: “الموروس”، “الغزاة”، “الطرد”، وهي تعابير متجذرة في التاريخ الإسباني منذ سقوط غرناطة (1492)، حينها بدأت عملية ممنهجة لمسح الوجود الإسلامي، عبر التنصير القسري ثم الطرد النهائي للموريسكيين بين 1609 و1614. تم اعتبارهم “غير قابلين للاندماج”، وتم استدعاء خرافة “الخطر الداخلي”.
المهاجر المغربي في مخيلة بعض الإسبان، حتى اليوم، لا يُنظر إليه كمواطن أو عامل، بل كامتداد للموريسكي، أي عدو حضاري قديم بوجه جديد.
رغم تنديدات الحكومة المركزية في مدريد وممثليها في مورسيا، إلا أن خطابا مقيتا يطغى على المشهد: إدانة للعنف، يقابلها تذكير بـ”خطورة الجريمة”، وكأن في الأمر نوعا من التبرير الضمني.
حزب “VOX” اليميني المتطرف، من جهته، لم يُضَيّع الفرصة لربط الحادثة بـ”فشل سياسة الهجرة” والدعوة لترحيل المهاجرين “غير المنسجمين”. هذا الخطاب لم يعد هامشيا، بل تغلغل في الإعلام والشارع، ويترجم عمليًا إلى عنف، كما حدث في طوري باشيكو.
مغاربة الفلاحة: اليد التي تطعم إسبانيا
ما لا يقال بما يكفي، هو أن من تعرّضوا للهجوم هم العمود الفقري للقطاع الفلاحي في الجنوب الإسباني. يعمل عشرات الآلاف من المغاربة في ظروف قاسية، بأجور زهيدة، في مزارع مورسيا وألميريا.
لكن، ما إن تقع جريمة فردية، حتى يُنسى هذا كله. لا يعود العامل المغربي “منتجا”، بل يستدعى في الخطاب كعبء، وخطر محتمل، وحصان طروادة.. حتى الذين وُلدوا في إسبانيا، يجدون أنفسهم فجأة غرباء بلا وطن.
تطالعنا البيانات الرسمية من مدريد والرباط بعبارات عن “العلاقات الممتازة” و”التعاون المثمر”، لكن الواقع في الشارع الإسباني شيء آخر.
الجوار السياسي لا يترجم بالضرورة إلى تعايش اجتماعي ما لم يُرافق بخطاب تربوي، إعلامي، وثقافي يعالج رواسب الماضي.
فلا معنى لتحسين العلاقات بين الدول إذا كانت الذاكرة الجمعية الإسبانية لا تزال تنظر إلى المغاربة كموريسكيين مؤجلين.
ماذا بعد طوري باشيكو؟
ما وقع في طوري باشيكو ليس حادثا معزولا، بل هو تجلٍّ لمأزق حضاري أعمق. إسبانيا ما زالت تعاني من فصام تجاه ماضيها الأندلسي، ومستقبلها المتعدد. والمغاربة هناك ما زالوا عالقين بين الاعتراف والتنكر.
إذا لم يتحول ما جرى إلى لحظة صراحة وطنية إسبانية، تُراجع فيها الدولة الإسبانية ذاكرتها، وتُعيد تعريف المواطنة بعيدًا عن العِرق والدين، فسنكون أمام “إيخيدو” و”باشيكو” آخرين في كل أزمة.
السكوت عن خطاب الكراهية ليس حيادا، بل هو تواطؤ، وحماية العامل المغربي من عنف الشارع لا تتم فقط بالأمن، بل بمواجهة إرث استعماري وثقافي يتجدد كلما اشتدت الأزمات.
هل آن لإسبانيا أن تصالح تاريخها مع جغرافيتها؟