في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية وتبدّل موازين القوة في المحيطين الهندي والهادئ، لم تعد التمارين العسكرية الكبرى مجرد تدريبات روتينية أو رسائل ردع عابرة، بل باتت تجسيدًا لتحوّلات استراتيجية تُعيد رسم خرائط التحالف والعداء في النظام الدولي.
وفي التلال الجرداء قرب مدينة تاونسفيل الأسترالية، اجتمعت وحدات من الجيشين الياباني والأسترالي، بمؤازرة مشاة البحرية الأميركية، في مناورة “ساوثرن جاكارو” التي سجّلت هذا العام أكبر مشاركة منذ انطلاقها قبل أكثر من عقد.
ورغم امتناع الجهات المنظمة عن تسمية الخصم صراحة، فإن عيون المشاركين وفرضياتهم الميدانية تتجه صوب بكين.
هذه المناورة لا تأتي في فراغ، فهي تتزامن مع تحوّل نوعي في استراتيجية واشنطن التي باتت تُكثّف التنسيق الميداني واللوجستي مع حلفائها في آسيا لمواجهة ما تصفه وزارة الدفاع الأميركية بالامتداد العدواني للنفوذ العسكري الصيني في منطقة تمثل بؤرة التنافس الكبرى في القرن الحادي والعشرين.
وتكشف تقارير صحافية دولية، من بينها “وول ستريت جورنال” و”فاينانشال تايمز”، أن الهدف لم يعد فقط اختبار الجهوزية أو التنسيق الميداني، بل الدفع نحو إرباك الحسابات الصينية وتعقيد خياراتها العسكرية، خصوصًا في ما يتعلق بتايوان.
وإلى جانب البعد التدريبي، برز تطور لافت في الضغط السياسي، إذ طالب وكيل وزارة الدفاع الأميركية، “إلبريدج كولبي”، خلال اجتماعات في طوكيو وكانبيرا بمواقف علنية وصريحة من الحليفين بشأن سلوكهما في حال اندلاع نزاع فعلي مع الصين.
هذا المطلب، الذي فاجأ بعض المسؤولين، يعكس انتقال السياسة الأميركية من استراتيجية الغموض البنّاء إلى مقاربة أوضح تقوم على اقتسام الأعباء وتوزيع الأدوار العسكرية ضمن عقيدة “أميركا أولًا” بلبوسها الدفاعي.
في المقابل، تواصل الصين تعزيز حضورها العسكري عبر مناورات متسارعة وتحركات رمزية مقلقة: من إرسال حاملة طائرات إلى الشرق من جزيرة إيوو اليابانية، إلى تدريبات بحرية قرب أستراليا، إلى تكثيف الطلعات الجوية حول تايوان.
وهي إشارات يعتبرها البنتاغون محاولات متكررة لاختبار حدود الردع الأميركي ومدى التماسك داخل شبكة التحالف الآسيوي.
ورغم قوة الرسائل الرمزية التي حملتها المناورات الثلاثية، إلا أن تقارير ميدانية كشفت عن ثغرات ملموسة تعترض التنسيق بين الجيوش المشاركة، من الحواجز اللغوية إلى تفاوت أنظمة القيادة والسيطرة، ومن اختلاف أساليب الاتصال إلى الاعتماد المحدود على المترجمين والرموز البصرية لتجاوز فجوات التواصل.
هذه العوائق التقنية تُخفي خلفها تحديات استراتيجية أعمق تتعلق بإمكانات خوض حرب مشتركة فعالة في بيئات شديدة التعقيد، كالتي قد تفرضها تضاريس جزر المحيط الهادئ في حال اندلاع النزاع.
الجنرال الأسترالي البارز “بن ماكلينان” رأى في المستوى الحالي من التكامل نقطة انطلاق واعدة، لكنه لم يُخفِ إدراكه، كغيره من القادة العسكريين، أن التماسك الحقيقي لا يُختبر في مناورات مدروسة، بل في لحظات الحسم الحقيقية حين يُصبح القرار العسكري خيارًا لا مفرّ منه.
وفي هذه اللحظات تحديدًا، يتضح إن كانت التحالفات العسكرية مبنية على مصالح صلبة أم على وعود ظرفية سرعان ما تتبخر عند أول عاصفة.
ووسط هذا كله، تواصل بكين اتهام واشنطن بتأجيج التوتر، وتحذّر من تحويل المحيط الهادئ إلى مسرح صراع مفتوح باسم “الدفاع عن تايوان” أو “حرية الملاحة”.
في المقابل، تبدو الولايات المتحدة وكأنها تحشد أوراقها ليس فقط لردع الصين، بل لتأطير صراع مقبل قد يكون تايوان عنوانه الظاهر، بينما تمثّل الهيمنة في آسيا المحور الحقيقي للمعركة القادمة.