1
كلما أمعنَّا النظرَ في الكون، جابَهَنا السؤالُ: كيف نشأ؟ ولأيِّ غاية؟ وقد تضاربت آراءُ الفلاسفةِ والعلماء والمفكرين في الإجابة، واحتدَّ الجدَلُ فيما بينهم، واشتجر الاختلافُ بينهم. فكلٌّ منهم يعضِّدُ نظريته في نشأة الكون بدلائلَ تمتدُّ عميقاً في البعد المادي، وجهاتُ نظرهم على عقبها، لتنائيهم بإصرار عن البعد الروحي. ومن ثَمَّ انقلبت وجهاتُ نظرهم على عقبها، وتحولت إجاباتُهم إلى ضَرْبٍ من التخمينات والظنون، تُشْعِلُ الشكَّ أكثرَ ممَّا تُشعل اليقينَ؛ لأن عقولهم المجرَّدةَ انطلقت من مبدإِ عدم اليقين في الوسائل والغايات، فصارت إلى ما صارت إليه من تخبُّطٍ وتنافٍ وتضاربٍ.
أما الصوفية، فهم على النقيض من ذلك. فقد انطلقت إجابتهم عن هذه الإشكالية من عقلانية مُؤَيَّدَةٍ، لها يقينٌ في وسائلها، ويقينٌ في نجاعة مقاصدها. فوقفوا على حقيقة نشأة الكون، وعلى نجاعة مقاصده، وعلى حقيقة المراد منه، وما فيه من العوالمِ، وقوفَ الشخص أمامَ المرآةِ. واتضح لهم أن كل أسراره متضمنةٌ في الحروف، وأن كل جزئية من جزئياته يختزنها حرفٌ من الحروف. ولذلك، اعتبرها ابن عربي أمةً من الأمم لا تموت، واتخذ منها كل علمٍ من العلوم والمعارف التي تفعل في الكون رمزًا وأيقونةً له. فالكون حرفٌ، والحرفُ بابُ معرفته، لا يتأتى لغيره كشفُ أسراره.
وإذن؛ فالفلسفة لا جدوى منها في مقاربة الكون، ما دامت لم تنفتح على تجاربَ صوفيةٍ ذات آفاقٍ إنسانيةٍ لا نهائيةٍ. ذلك أن الغايةَ الأسمى للنفس الإنسانية هي أن تصل إلى عالم القدس، وتتلقَّى الأنوارَ والأسرارَ. فالنفسُ في الأصل من عالَمِ الملكوت، ولكن القوى البدنية شغَلتْها عن أصلها وجوهرها. فإذا استقْوَتْ بالفضائلِ الروحانية، واستضعفَتْ سُلطانَ القوى البدنية وغلَبَتْها، أُتيحَ لها أحيانًا الوصولُ إلى عالَمِ القُدسِ، والاتصالُ بخالقها، وتَلَقِّي المعارفِ منه مِنَّةً وكرماً. ومن بين هذه المعارف، معرفةُ حقائق الأشياءِ. فحقائقُها تقع وراء ماهيتها ووجودِها؛ لأن حركةَ الإيجاد تُوَلِّدُ ماهيتَها ووجودَها في آنٍ. وهذا ما يسميه السهروردي – المقتول سنة 587هـ/1191م– بالنور. والنورُ ظاهرٌ بنفسه ولنفسه، ومُظْهِرٌ لغيره في آنٍ. فطبيعتُه الذاتية هي الكشفُ والتجلي، والإشراقاتُ الصادرةُ عنه تعود على ذاتِها مُتَقابِلةً مع النفوس الإنسانية.
فهل في مُكْنَةِ الحرف اختزانُ كل هذا؟ بالتأكيد، إذا وجد روحًا تفهمه. فنحن بالحرف نفهم الوجودَ، ونكتشف مُعَمَّيَاتِهِ وملابساتِه. فالوجودُ حرفٌ، والحرفُ وجودٌ، فهما معًا يتماهيان، وهما معًا يتبادلان الأدوارَ في مرآة الحياة والذاكرة والدين والأسطورة والمخيال، وفي الترميز بالقوة القَوَوِيَّةِ، والتجريد المتعالي.
وإذا كانت حبةُ الرمل تختزن الصحراءَ وتؤشر عليها، وقطرةُ الماء تختزل البحرَ وتومئ إليه، ونبضةُ العطر تَحُوزُ الأزهارَ وتدل عليها، فإن الحرفَ هو كذلك يمثل كثافةَ الوجود في أعالي أعاليها. فهو الشجرةُ الرامزةُ إليه أُونْطُولوجيًّا. فمن هذه الشجرة خرج الأمرُ الإلهيُّ، فصار كَوْنًا ووجودًا هو عبارة عن شجرة الكون، التي يُمثِّلُ كل جزءٍ من أجزائها حركيةَ الوجود، وتَوَهُّجَ اختلافاته، وتناغمَ إيقاعاته، وتشابكَ دلالاته.
ولذا، كانت منظومةُ العرفان سبّاقةً إلى الاشتغال على الحرف من وجهة الشهود البصائري، الذي لا تحكمه الغايةُ، وإنما تحكمه لذةُ الاتصال المعرفي اللدني، بعيدًا عن وجهة الاستعمال النظري الواقعي، الذي تحكمه المنفعةُ المادية. ومنظومةُ العرفان منظومةٌ جامعةٌ للعلم والشكر، حمالةٌ معانٍ وفضائلَ سنيةً يانعةً، بازغةً من شجرةٍ لدنيةٍ، تؤتي أكلَها المختلفَ المتعددَ كل حينٍ. لا تؤثر عليها الفصولُ ولا الأزمنةُ، فزمنُها هو زمنُ الغيب الذي لا يعرف النهايات. وفواكهُها تُقطَفُ بالبصائر، لا بالأبصار والأنظار. تُمعن الروحُ التأملَ فيها فتسعدُ وتنعمُ، وتتخلى عن كل ما كانت تظنه مَغنَمًا ومكسبًا، فهي مجرَّةُ فرحٍ عند كل ضيقٍ.
ولعل أهمَّ نقطةٍ ساهم فيها العرفانُ داخل الثقافة الإسلامية هي منهجُه الجديدُ والإشكالي، الذي أغلق على غيره الطرقَ الاعتياديةَ في المناقشة والجدل؛ لأن المرتكزَ الذي اعتمده خصومُه هو العقلُ، بينما المنهجُ العرفاني يدعي أن الكشفَ والشهودَ لا سبيلَ للعقل إليهما البتةَ. فهو نظامٌ معرفيٌّ ومنهجٌ في اكتساب المعرفة، ورؤيةٌ للعالم، وموقفٌ منه، ولا علاقةَ له بالغنوص. يتميز عن منهج البيان والبرهان في اعتماده على القبول من مصدرٍ غير ذات الإنسان، وذلك بتهيئة الباطن إلى القبول بالعلوم اللدنية التي فوق الإدراك، بإدراكٍ نوعيٍّ خاص. إذ للإدراك طرقٌ تكاد تكون بعدد تجليات الألوهة في الكون. فطريقُ المعرفة عند العرفاء لا يكون بتوسُّط جهودٍ منطقيةٍ وعلميةٍ، أي من خلال الرويّة والتفكير وإعداد المقدمات النظرية، بل يكون عن ذوقٍ ومشاهدةٍ.
فالعارفُ يعرف الأشياءَ من أصلها، ويدخل البيوتَ من أبوابها، فتنكشف له حقائقُ الذات الجامعة لسائر الأسماء والصفات، وتكون معرفتُه ناشئةً عن مكاشفةٍ وعيانٍ، لا عن دليلٍ وبرهانٍ. فهو بحقٍّ المتصفُ بالعلم؛ لأن العلم هو إدراكُ المعلوم على ما هو عليه إدراكًا كشفيًّا بالعلم. على أن هذا العلمَ كاشفٌ لحال العارف، غير مستقلٍّ عنه، كما هو الشأنُ مع العلوم التي أصلُها الفكرُ والتعقلُ، لجواز انفصال العالِم عن المعلوم. فمعلومُ العارف مشهودٌ غير متصورٍ، كما الشأنُ في بقية العلوم. فالعرفانُ شرطُه المعرفةُ الحضورية لذات الله وصفاته وأفعاله، ومحوُ المسافة اللاّمتناهية من الوجود بين الإنسان – بما هو حادث – والحق تعالى – بما هو قديم – شرطٌ لتحقق المعرفة على شرط المشاهدة. فلم يبقَ إلا الفناءُ لأحد الطرفين، والبقاءُ لطرف آخر. والأصلُ يقضي بفناءِ الذي أصله كذلك، وهو الإنسان، والبقاءِ للذي أصله كذلك، وهو الحق تعالى. إذ الحقيقةُ لا تُرى إلا إذا أخذت العبدَ من وجوده، وظهرت له في نفسه، رآها بظهورها في بصره، بل في جميع ذاته.
2
في العرفان، يتم إسقاطُ ملكات الإنسان المعهودة، التي اعتاد الاستعانةَ بها في الاطلاع على ما يحيط به، من حواسَّ ظاهرةٍ وباطنةٍ، ومن عقلٍ، وكل ما تقتضيه هذه القوى من أساليبَ برهانيةٍ وجدليةٍ وإيحائيةٍ. يتم خرقُها وطيُّها، ليبعث في عالم القدس الإلهي، المتمثل في المعرفة الخاصة بالحق تعالى. فالعرفانُ هو ثمرةُ مشاهدةٍ، لا يدَ للعارف فيه، تجد الناسَ يداوِلونه كعلمٍ من علوم النقول، يعتبرون تعاطيَه من تعاطي مراتب الوجود. ومن ثم، أولاه أكابرُ الصوفية أرواحَهم وعقولَهم، لتجلية أسراره وأنواره. فكانت رؤيتُهم له رؤيةَ توحُّدٍ في المنبع، واختلافٍ في الشرب، وتباينٍ في الفهم، نظرًا لعدم تشابه التجليات. ولهذا، كانت الرؤيةُ الأكبرية للحرف غيرَ الرؤية الحلاجية والنفرية والسبعينية. وذلك لأن النظرَ إلى العالم – علويِّه وسفليِّه – بجميع مكوناته ليس واحدًا، بل هو أنظارٌ متباينةٌ، وكل نظرٍ منها يحمل استيهاماتِه والتباساتِه، وارتعاشاتِ محلوماتِه. وهذه الأنظار تتكثف في أربعةٍ، هي:
-
نظرُ عامة الناس، ويكون بالبصر، وغايتُه المشاهدةُ المادية الحسية، وأداتُه هي “إلى”.
-
نظرُ الفلاسفة، ويكون بالعقل، وغايتُه التحليلُ والتركيبُ والوقوفُ على العلة الأولى، وأداتُه هي “في”.
-
نظرُ العرفانيين، ويكون بالبصيرة، وغايتُه المحبةُ والرحمةُ والإحاطةُ، وأداتُه “اللام”.
-
نظرُ الشعراء، ويكون بالخيال والمكافحة والمقابلة، وغايتُه الخَلقُ والحريةُ. ولذلك، فهو لا يحتاج إلى أداةٍ؛ لأن الأداةَ قيدٌ وإعاقةٌ، والخيالُ حريةٌ. يمثل أسمى الحضرات التي ما فوقها حضرةٌ ولا تحتها حضرةٌ. ولهذا، كان الشعرُ هو هويةُ الخيال، ولغةُ اللغات التي كلم اللهُ بها العالم. فالشاعرُ ينظر مباشرةً دون حاجةٍ إلى أداةٍ من خارج ذاته، وينفذ إلى جوهر جوهر الوجود. والصوفي العرفاني ليس سوى ثائرٍ فوق سجادة الشعر، ضد الفساد في الكون.