
نستحضر يوم 9 يوليوز ذكرى وفاة رجلٍ من رجالات المغرب في العلم والأدب والصحافة، وواحدٍ من الذين خبروا الميدان السياسي واشتهروا بحسن تدبير تناقضاته، والقدرة على تخطي تحدياته بحكمةٍ عزَّ نظيرها. فالرجل نشأ في مخاضٍ سياسيٍ ترنح تحت الضغوطات الاستعمارية التي عرفها المغرب، وما فرضته من مقاومة، خصوصًا وقد تأكد أن المعطى الحضاري والوحدة المغربية معنية بالتمزيق من خلال “الظهير المغربي”.
عبدالله كنون بين واحات الأدب ولُجَجِ الصحافة:
في ظل هذه الظروف، انطلق عبدالله كنون – رحمه الله – حاملًا عبء النهضة المغربية على شتى المستويات: الفكرية، الأدبية، السياسية والدينية، بدايةً من كتابه: «النبوغ المغربي» الذي جمع فيه نتفًا من كل ذلك. قال عنه أمير البيان شكيب أرسلان: «هو خلاصةٌ منخولة، وزبدةٌ ممخوضة، استخلصها صاحبها من مئات الكتب المصنفة، وألوفٍ من الأحاديث التي لقفها من أفواه العلماء الذين أخذ عنهم. وقلما رأيت مؤلفًا جمع المعنى الكثير في اللفظ القليل». وقد كانت الحاجة ماسة لمثل هذا المصنف، يعرف بالأدب المغربي وأهله، في وقت كان الاستعمار يعمل جاهدًا على طمس الهوية المغربية الأصيلة. ويعد الأدب وتاريخه الجبهة الأمامية لتثبيتها في النفوس، وشهادةً لمناظرة المخالفين من أهل الفنون. جمع فيه ترجمةً لأكثر من خمسمائة عالمٍ وأديبٍ ومؤرخٍ مغربي، وقد نال إعجابًا واندهاشًا من عربٍ ومستشرقين لما علموا بالإنتاج العربي المغربي، وقد كانوا يعدوننا برابرة لا قبل لنا بالعربية وعلومها.
وإلى جانب اهتمامه بالأدب وتاريخه وتحقيقه، اهتم بالكتابة الصحفية. وتعد المقالة أحد أبرز تجلياتها، فلها يرجع الفضل في تنمية الوعي الوطني. وهو السلاح الذي استعمله مثقفو الحركة الوطنية للتواصل مع الجماهير، ولهذا نجدها لا تسلم أحيانًا كثيرة من حذف الرقيب الاستعماري. وعلاقة الأستاذ كنون بالصحافة علاقة وطيدة. فقد بادر منذ توليه رئاسة رابطة علماء المغرب سنة 1960 إبان تأسيسها، إلى إصدار صحيفة «الميثاق» لسان الرابطة، بالإضافة إلى مجلة «الإحياء». كما كان – رحمه الله – غزير الكتابة في صحف ومجلات مغربية وعربية عديدة. وقد تنوعت مقالاته في السياسة والإصلاح والنقد الأدبي والبحث اللغوي، والتي تم جمعها في كتب: «التعاشيب»، «واحة الفكر»، «خل وبقل»، «العصف والريحان»، «أزهار برية»، «معارك».
في محراب الدعوة والإصلاح:
يمثل كل ما سبق ذكره جانبًا من حياة واهتمام الرجل، ويبقى الجانب الأكبر الذي لا يكاد ينسلخ منه، ونذر نفسه له، وطغى على غيره من سائر الاهتمامات، ألا وهو الجانب الدعوي الإصلاحي الذي يقول عنه: «إنني رجل دين بحق، ولا أعني أنني رجل عبادة وصلاح كما قد يفهم البعض فحسب، بل إني مصلح ديني، أنبه على بعض البدع التي ألصقت بالدين وليست منه. وأشير إلى بعض الشوائب التي علقت بالتعاليم الدينية من جراء التعصب أو سوء فهم. وأثير الاهتمام بالتمسك بروح الدين. وأنا لست متطفلًا على هذا العمل، فهو ميراث آبائي وأجدادي، وهو عندي عقيدة ومنهج وسلوك» (لقاء مع الأستاذ كنون، مجلة الفيصل 1988). فالقضية الأساس عند شيخنا هي رجوع المسلمين إلى دينهم، الذي قال عنه عمر بن الخطاب: «كنا قومًا أذلة، فأعزنا الله بالإسلام…»، والأمر نفسه اليوم في ظل هذا الهوان الذي نعيشه تحت نير ذل الاستعمار، والتخلف عن الركب الحضاري، فلا سبيل إلى التحرر والانخراط في مسيرة التنمية الشاملة، إلا بالعودة إلى ينابيع الإسلام الصافية، كتلك التي تجسدت في الرعيل الأول من المسلمين، الحامل لكل معاني العزة والرفعة والمنعة.
فـ«الإسلام الحقيقي، هو إسلام السلف، والدعوة إليه هي دعوة للرجوع إلى الكتاب والسنة، وما اشتق منهما. مع الأخذ من غير ذلك ما لا يناقض الإسلام ولا يجزئه ولا يبعضه» (الرائد). ووظف لهذه الغاية كل ما أوتي من تحرير للمقالات في مختلف المنابر الإعلامية، كما كرس خطبه المنبرية ودروس الوعظ والإرشاد لتصحيح المفاهيم، وإكساب الأجيال الصاعدة المناعة ضد الحملات التي تروم النيل من عقيدتهم. وكان الهدف من كل تآليفه «تقريب الناس من القرآن، وتقريبه منهم»، وجاء تفسيره للمفصل من القرآن منسجمًا مع هذا المسعى، بأسلوبه البسيط المختصر غير الممل، فهو كما صرح في مقدمته: «خالٍ من الاصطلاحات العلمية والأقوال المتعارضة»، فمهمة العلماء هي: «بعثة الأجيال وانتفاضة الشعوب».
خاتمة:
لقد كان سيدي عبدالله كنون مثالًا للعالم العامل، ومدرسةً بسلوكه وفعله قبل مقاله. وهب حياته للعلم، والدفاع عن مبادئ الإسلام السمحة، أمام التيارات الوافدة الهدامة. فبيته كان مقصد الطلاب من شرق وغرب في حياته. وبعد مماته، وقف خزانته للباحثين من أساتذة وطلبة وقراء عموما. وهو بهذا يكون قد ساهم مساهمة فعالة في بناء الشخصية المغربية بسمات عصرية، مع اعتزازها بامتدادها الحضاري. فحاز لكل هذا وغيره احترام العلماء والمفكرين، عربهم وعجمهم. نقتطف من دوحة تلك الشهادات التي لا يستطيع العاد حصرها، شهادة الدكتور عبدالعزيز الحبابي: «… فكان بذلك أستاذ الجيل، تفتحت على يديه بوادر النهضة المغربية الحديثة. ذلك الجيل الذي أثرى المكتبات بما يشرف الدين في الداخل والخارج».