لم يمرّ الفيلم الوثائقي، الذي بثّته القناة الجزائرية الدولية تحت عنوان “هروب إلى الحياة”، دون أن يخلّف ردود فعل غاضبة في صفوف الجالية المغربية المقيمة بإسبانيا، خاصة بعد إقدام الجهة المنتجة على ترجمة العمل إلى اللغة الإسبانية، في ما اعتُبر سعيا إلى توسيع دائرة تأثيره داخل الرأي العام الأوروبي. وقد رأت فيه جمعية الذاكرة المغربية للمواطنة والكرامة–مدريد محاولة مفضوحة لتسويق سردية اختزالية، تُمعن في تقديم المغرب كفضاء للعبور القاسي وتُقصي عمدا التحولات التي شهدها في مجال الهجرة من حيث التشريعات وسياسات الإدماج وتحديث البنيات الاستقبالية.
وعبّرت جمعية الذاكرة المغربية للمواطنة والكرامة–مدريد، في بيان توصلت به جريدة هسبريس الإلكترونية، عن رفضها القاطع لما أسمته بـ”التحريف الرمزي الممنهج” الذي ينطوي عليه الفيلم الوثائقي “هروب إلى الحياة”، معتبرة أن هذا العمل لا يُقرأ خارج سياق التوترات السياسية الكامنة بين الرباط والجزائر.
وأكدت الجمعية أن توظيف الأداة الوثائقية في هذا السياق لا يخدم الحقيقة؛ بل يُسهم في تغذية خطاب عدائي مُبطّن، يُعيد إنتاج صور نمطية عن المغرب، ويُقدّمه في الذهنية الأوروبية كبلد مأزوم، من دون إنصاف أو توازن في الطرح.
الخطير في هذا الخطاب المصوّر، حسب الجمعية المغربية ذاتها، هو أنه لا يتوقف عند حدود التوثيق أو نقل الواقع كما هو؛ بل ينزاح نحو تأطير إيديولوجي يُخفي أكثر مما يُظهر، ويتلاعب بالبؤر الدرامية لتوجيه المتفرج نحو استنتاجات مسبقة. فالمغرب، وفق سردية الفيلم كما تراها الجمعية، ليس سوى نقطة انطلاق نحو “الحلم الأوروبي”؛ بينما تُغيب كليا أدواره الإقليمية في محاربة شبكات التهريب، ومبادراته الإنسانية في احتضان آلاف المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء. وبذلك، يُعاد إنتاج صورة نمطية تختزل المغرب في زاوية واحدة، وتُقصي تعدديته السياسية والثقافية والاجتماعية، في تجاوز واضح لمبدأ الإنصاف في التناول الوثائقي.
تُظهر بنية الفيلم، حسب الجمعية المغربية المقيمة بإسبانيا، نوعا من الانزلاق من الموضوعية المفترضة إلى الانحياز الصريح، إذ يتم تغييب الأصوات التي من شأنها موازنة الرواية، سواء كانت مؤسسات رسمية أم مكونات من المجتمع المدني المغربي، مقابل تركيز الخطاب على روايات فردية تعزز مناخ الإحباط والانكسار. هذا الإقصاء المُمنهج لزوايا النظر المختلفة لا يُعبّر عن رغبة في الإحاطة بالظاهرة في تعدديتها؛ بل يكشف، وفق تعبير الجمعية، نزوعا نحو تثبيت صورة ذهنية نمطية تخدم سردية جاهزة. ومن ثَم، فإن الوثائقي يتحوّل إلى أداة تأطير دعائي، تتعارض مع أبجديات التحقيق البصري الجاد، وتنزلق إلى منطقة التهييج العاطفي، مما يفقد العمل صدقيته الفنية والمعرفية.
وتتعمّق رسائل الفيلم، حسب متتبعين، في إعادة إنتاج تمثلات قديمة لطالما روّج لها جزء من الخطاب الإعلامي المغاربي المتأثّر بإكراهات جيوسياسية ضيقة، إذ يُقدَّم المغرب لا بوصفه دولة ذات سيادة تضبط حدودها وفق قواعد القانون الدولي، بل كحيّز هشّ تسوده الفوضى ويهيمن عليه سماسرة العبور وتجار البؤس. وأكد هؤلاء المتتبعون أن الوثائقي لا يقتصر على عرض شهادات متفرقة؛ بل يصوغ سردية بصرية محكمة تُوحي بانهيار شامل، من خلال لقطات مركّبة لأسطح المنازل، ونقاط العبور غير النظامية، ومحطات القطار المعطلة، في تجاهل تام لباقي أبعاد الواقع المغربي.
“حرب ناعمة”
أحمد العبدلاوي، الباحث في العلاقات الدولية والأستاذ الزائر بجامعة مدريد، أكد أن الفيلم الوثائقي يُعد نموذجا دالا على كيفية توظيف الصورة في الصراعات الجيوسياسية الناعمة بين دول الجوار.
وأوضح العبدلاوي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن هذا الفيلم الوثائقي لا يمكن قراءته بمعزل عن التحولات التي تعرفها العلاقات المغربية–الأوروبية، وتنامي دور الرباط كشريك موثوق في قضايا الأمن والهجرة؛ وهو ما يزعج أطرافا إقليمية تحاول تقويض هذا التموقع من خلال رسائل رمزية موجهة إلى الرأي العام الغربي.
وأضاف الباحث في العلاقات الدولية والأستاذ الزائر بجامعة مدريد أن الخطر لا يكمن فقط في مضمون الفيلم؛ بل في التوقيت والسياق الذي أُنتج فيه، تزامنا مع تصاعد الاعتراف الدولي بدور المغرب في ضبط حدود جنوب المتوسط، ورغبته في إعادة صياغة موقعه كفاعل مسؤول، لا كمتهم دائم.
وأشار المصرح عينه إلى أن الفيلم يتجاهل بشكل مريب الجهود المغربية في تسوية وضعية المهاجرين، حيث تم إدماج آلاف الأشخاص في برامج حكومية ذات طابع إنساني نالت اعترافا دوليا. كما يُغفل هذا العمل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها كل دول العبور، مفضلا اختزال هذا التعقيد في مشاهد مثيرة ومشحونة عاطفيا.
وأبرز الباحث أن هذا النهج يُنتج هندسة إدراكية مغلوطة لدى المتلقي الأوروبي، تعزز مشاعر التوجس من المغرب بدل تعميق الفهم، وتُعيد إحياء مركزية موروثة في مقاربة قضايا الجنوب.
وختم العبدلاوي بالتأكيد على الحاجة إلى تطوير خطاب مغربي استراتيجي داخل الفضاء السمعي البصري الأوروبي، لا يكتفي بردود الفعل؛ بل يعيد تقديم المغرب كبلد تتقاطع فيه الإرادة التنموية مع الوعي الحقوقي، بعيدا عن التبسيط والاختزال.
تشريح بصري
الناقد السينمائي عادل فلاح قارب الفيلم من منظور جمالي وتقني، معتبرا أن «هروب إلى الحياة» يعتمد على جهاز بصري كثيف يُراهن على التأثير الحسي بدل الإقناع العقلي.
وأوضح فلاح، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن العمل يوظّف كاميرا مترصّدة، تتنقل في الأزقة والموانئ وساحات الانتظار بعينٍ تبحث عن البؤس فقط، في تجاهل تام لأي مشهد قد يُضعف التشخيص السوداوي الذي يسعى المخرج إلى ترسيخه.
وسجل الناقد السينمائي أن هذا الانتقاء الحاد للصور يضع الفيلم ضمن خانة السينما الإيديولوجية، حيث تُسخَّر تقنيات السرد والإضاءة والمونتاج لخدمة أطروحة مُسبقة، لا لاكتشاف الحقيقة أو مساءلتها.
وأضاف المتحدث أن ما يلفت الانتباه في بناء الفيلم هو غياب أية مسافة نقدية بين المخرج وموضوعه، إذ يتحول المهاجر إلى رمز مطلق للمعاناة، ويُقدَّم المغرب كفضاء عبور مظلم، دون أدنى محاولة لتركيب المشهد أو تعديد زوايا النظر. هذا التبسيط المُفرط، برأيه، يُفرغ الوثائقي من طاقته التحليلية، ويختزله في أداة دعائية مغلقة تُكرّر خطابا مؤدلجا سبق أن ظهر في إنتاجات إقليمية ذات مرجعية سياسية.
كما شدّد فلاح على أن الخطاب البصري للفيلم يُبنى على توليف درامي موسيقي يوهم المشاهد ببداهة ما يُعرض، في حين أن كثيرا من المشاهد مصطنعة لتضخيم الإحساس بالفقد والانكسار؛ ما يجعل العمل أقرب إلى هجائية مرئية منه إلى وثائقي يستند إلى الإنصاف والتعدد في عرض الوقائع.
وتابع الناقد ذاته تحليله بالتأكيد على أن ما يجعل الفيلم إشكاليا من الناحية الفنية لا يقتصر على خلفيته الإيديولوجية المسقطة؛ بل يتجلى أساسا في انعدام التعدد الصوتي، إذ تُقصى تماما أي وجهات نظر مغربية، سواء من مسؤولين رسميين أم باحثين أم حتى مهاجرين اختاروا الاستقرار داخل التراب الوطني، لافتا إلى أن أحادية السرد تُفرغ الوثائقي من شرطه الجوهري، باعتباره حوارا مفتوحا بين رؤى متعددة، لا بوقا لرواية واحدة.
وخلص فلاح إلى أن مثل هذه الأعمال تبرز الحاجة الملحّة إلى دبلوماسية ثقافية مغربية فاعلة في الفضاء السمعي البصري الدولي، قادرة على مواجهة هذه الخطابات المضادة لا بالاكتفاء بردود الأفعال المؤقتة؛ بل بإنتاجات بديلة مضادة تُخاطب الذائقة العالمية بلغتها، وتُعيد التوازن إلى المشهد الوثائقي. فالمعركة، وفق الناقد السينمائي سالف الذكر، لم تعد حكرا على الدوائر السياسية؛ بل تُخاض على الشاشات، حيث تُصاغ تمثلات الشعوب وتُرسم صور الدول في الوعي الكوني.