في زمنٍ تتكثف فيه معاني الألم الفلسطيني، وتتهاوى فيه ما تبقى من أقنعة العدالة الدولية، خرجت علينا صور لأشخاص يُقدَّمون في الإعلام الرسمي الإسرائيلي بوصفهم “أئمة من أوروبا”، وهم يصافحون رئيس الدولة التي تمطر غزة بالقنابل منذ أكثر من عامين ونصف العام.
لم تقف المشاهد عند هذا الحد؛ بل ظهرت لاحقًا صور أخرى لأفراد المجموعة وهم يجلسون في قاعة تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، يستمعون إلى “دروس” من الناطق العسكري أفيخاي أدرعي، يشرح فيها مفاهيم “التمييز بين المدنيين والإرهابيين”، في سياق لا يخلو من التوجيه والتلقين.
الزيارة، في حد ذاتها وعلى مستوى الأفراد، تندرج ضمن حرية التنقل وتشكيل المواقف الشخصية، حتى وإن بدت صادمة أو خارجة عن السياق الأخلاقي العام.
لكن الإشكال الجوهري يكمن في تقديم هؤلاء الأشخاص بوصفهم “أئمة أوروبا” و”سفراء الإسلام المعتدل”، بل و”صوت المسلمين” في القارة الأوروبية؛ وهو تمثيل زائف بكل تأكيد، لا سند له من الواقع ولا من مؤسسات المسلمين المعروفة.
من فوّض هؤلاء؟ ومن منحهم، من بين ملايين المسلمين في أوروبا، حق التحدث باسم الإسلام؟
لقد تحوّلت الزيارة إلى نموذج مثالي في التسويق السياسي الإسرائيلي، ضمن حملة تبييض ناعمة لاحتلالٍ متهمٍ بارتكاب فظائع موثقة بحق المدنيين، وسط إدانات دولية متصاعدة.
ولعل التدوينة التي نشرها أفيخاي أدرعي تكشف بوضوح هذا التوظيف، إذ قال: “تشرفتُ باستقبال نخبة من الأئمة ورجال الدين المسلمين الشجعان… جاؤوا إلى إسرائيل حاملين رسالة سلام وشهادة حق”.
ثم تابع تدوينته عن “الاحترام المتبادل”، و”التقريب بين القلوب”، و”واقع مختلف عمّا تروّجه قنوات التحريض”.
لكن كما يُقال: الصورة تساوي ألف كلمة.
ضابط في جيش الاحتلال الإسرائيلي، يقف بزيه العسكري الرسمي، وخلفه شاشة إلكترونية تحمل اسم العدوان على غزة: “السيوف الحديدية”.
بينما يجلس أمامه رجال يرتدون “قبعات إسلامية”، يستمعون إليه في مشهد أقرب إلى حصة تلقين منه إلى حوار نديّ أو لقاء متكافئ.
الحقيقة هي أن هذه الزيارة تندرج في إطار عملية تزييف مزدوج: تزييف لحقيقة العدوان الإسرائيلي على غزة، وتزييف لصوت المسلمين في أوروبا والعالم الإسلامي.
كل ذلك من خلال تقديم مشهد علاقات عامة مُعدّ سلفًا على أنه “مبادرة دينية”، في لحظة يُقصف فيها المدنيون وتُحاصر المستشفيات وتُرتكب المجازر بحق الأبرياء.
وأما أولئك الذين ركبوا الطائرات إلى القدس المحتلة، ثم جلسوا في قاعة أفيخاي أدرعي يستمعون لشرح “أخلاقيات الحرب الإسرائيلية”، ثم عادوا ليحاضروا في “التسامح”، فإن أبلغ ردٍّ عليهم لم يأتِ من جهة رسمية؛ بل من تعليق شعبي موجز وصادق:
“ربما زاروا إسرائيل بأجسادهم؛ لكنهم خرجوا من قلوب الناس إلى غير رجعة”.