جريمة قديمة وجريمة قادمة مع حالة العَود (Revelations 2024 من إخراج Sang-HoYeon). تتبع الكاميرا الشر السائل في الشوارع، مطاردة وتهديد… مجرم مهووس بالمراهقات في حالة العود للإجرام مجددا. يُجَن الدب المعزول. للتشويق تجري الأحداث في غابة وفي خرابة لتجنب الفضاءات المدينية المضاءة والمراقبة بالكاميرا، التي تسهل عادة عمل المحققين، وبالتالي تقضي علـى التشويق البوليسي.
خرابة، كنيسة فخمة ومكتب شرطة ضيق، تحاصر القيود الواقعية للمكان الحبكة. الفوارق والتناقضات واضحة.
كيف تدعم طبوغرافية المكان الطباقية حبكة الفيلم؟
بينما يكاد الناس يشحذون في شوارع عنيفة ومباني مهترئة، وعقارات فندقية غير مكتملة ومشاريع مفلسة، يبني الأسقف معبدا ذهبيا فخما واسعا في واجهته لوحة تبشر بالسلام، لوحة تمجد “الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف” المطيعة.
هناك طباقات سلوكية أيضا: ذهب الكاهن ليشتكي للأسقف فبدأ الأسقف يشتكي للكاهن. يريد الأسقف تربية الشعب ويكتشف أنه لم يُرب ابنه الذي رسب في أول اختبار عاطفي وهو المتزوج حديثا.
بمثل هذه الأجواء الفيلمية تصمد الدراما الكورية في سوق الفرجة الكونية التي تبثها “نيتفليكس” على مدار اليوم. أفلام جريمة وسوداوية وفضاءات كئيبة. كل الأسر في الفيلم ممزقة ومفككة، الفرد متروك لذاته. ربما يتغذى هذا الواقع الوحشي من الوضع في بلد غير مستقر سياسيا. رئيس كويا الجنوبية معتقل والدولة تقبع بين فكّي بلدين يحكمهما حزبان شيوعيان في 2025.
يعرض الفيلم حبكة ثلاثية الأبعاد. لكل شخصية قصة. شرطية مرهقة بواجب انتقام وبماض ثقيل، شرطية تحقق في مصير عدوها رقم واحد. محققة منحازة منذ البداية.
مجرم يتهم ماضيه لا نفسه، يبرر عنفه بماضيه، يقرأ الكتب ويصنف ما جرى له كعقدة طفولة يُصيّرها المحلل النفسي وسيلة وحيلة للابتزاز. يسوق الطبيب النفسي أن “العنف يولد العنف”. بتفسير العنف من وجهة النظر هذه يبدو المجرم وكأنه لا يتحمل مسؤولية أفعاله شخصيا.
كاهن غارق في الخطيئة يدعو للتوبة… كاهن بذل جهدا ليستحق مركزه، يرصد ما يجري بدهشة. كيف يتصرف الكاهن أمام الشر البشري؟.
يقارن الكاهن المجرم بالشيطان. يعتبر الكاهن نفسه موكلا بتنفيذ العدالة الإلهية…
الحل في يد النبي المسلح.
شرطية باهتة حائرة بين الانتقام والعدل، تتجاهل القرائن في موقع الجريمة… اختارت الواجب بدل الانتقام. هذا هو مصير الشرطي خادم الدولة حسب خصاص الفيلم البوليسي.
يعرض الفيلم حبكة ثلاثية الأبعاد تبدأ متباعدة ولا تصير منسجمة إلا بإقحام تفسيرات جاهزة. كيف سد السيناريست الفجوة بين القصص الثلاث؟.
بداية لكل شخصية قصة، ثلاثة عوالم تحاول أن تتقاطع وتتداخل. يتم رتق القصص لتلتقي وتتوحد في معمار واحد. يدير السيناريست الصدفة ليجعلها مقنعة، وهو يسد الفجوة لتصير الحبكة المقسومة واحدة.
رغم افتعال تحويل كل حدث إلى مطاردة فإن شخصيات الفيلم ثابتة منذ بدايته حتى نهايته. لم تتسبب الأحداث في أي تحول. لمكافحة الملل يتخذ الفيلم منحى فلسفيا في الثلث الثالث؛ وهذا هو الجزء الأصعب من كل فيلم عادة. منحى فلسفي يفسر الأشكال والرموز ويحملها معاني ضخمة.
يجري تفسير حالة العود للإجرام مجددا بدافع سيكولوجي لدى البوليس وميتافيزيقي لدى الكاهن.
يلقب المجرم زوج أمه بذي العين الواحدة. يحارب الكاهن الدجال الأعور وهو المسيح المزيف… يتم الربط بين دوافع المجرم وشكل الدجال ذي العين الواحدة. الدجال (Antéchrist) عدو المسيح والكاهن. من يملك عينا واحدة لا يرى المشهد كاملا، يرى العالم من جهة واحدة.
الشرطية منحازة مسبقا للضحية. الكاهن – الراعي الصالح – منحاز للملائكة، وهو يكره الشياطين العاصية.
من سيحقق العدالة الدولة أم الله؟ البوليس أم الكاهن؟ في السباق بين المجرم والشرطي والكاهن والطبيب النفسي من يقود خطوات البشر، هل الإرادة أم الروح القدس؟.
يحلل الطبيب النفسي الدوافع الإجرامية لكي يفهم القاضي ما جرى. حسب المحلل النفسي يصير الطفل الذي تعرض للعنف لوقت طويل مجرما. إذن فهذه حتمية وليست اختيارا خطرا يتحمل الفرد مسؤوليته. من وجهة نظر الضحية هذه تبرئة للمجرم، وهذا ما أثر سلبا في مصيرها. يتسبب تفسير سوك الشخصية غير السوية بما عاشته في طفولتها في التعاطف مع المجرم. هذا مدخل لشرعنة العنف.
رغم بطء الأحداث وأحادية خصائص الشخصيات في الفيلم يلتزم السيناريست بوضوح بالقواعد والفكرة التي تؤطر كل مشهد في الفيلم البوليسي النمطي. كل شخصية واثقة من فرضيتها منذ البداية، ولن تتنازل مهما كان الثمن. هذه حبكة ميكانيكية مكشوفة منذ البداية، صار من الصعب جعلها مشوقة لأن التكنولوجيا تكشف الأسرار بيُسر، والأخطر وجود كاميرا معلقة في كل مكان، فماذا سيضيف المحقق الماهر؟.
ستقضي كاميرات المراقبة الفاضحة على صلصة الفيلم البوليسي السّرية.