أثار الإعلان عن تواجد جهة إنتاج تركية في المغرب لتصوير مشاهد من المسلسل التاريخي الجديد “الخليفة” موجة من التفاعلات، بالنظر إلى حساسية الموضوع الذي يُعالج مؤسسة الخلافة الإسلامية في إطار درامي تتداخل فيه الأبعاد الفنية مع المرجعيات السياسية والتاريخية، وقد اختارت الشركة المنتجة عددا من المعالم الحضارية العريقة بجنوب المغرب لتصوير مشاهد محورية.
ويحمل مسلسل “الخليفة” في اختياراته الفنية بعدًا يتجاوز الإطار الدرامي المحض، إذ يستثمر في الذاكرة العثمانية كمدخل لإحياء تمثلات تاريخية، تُستدعى اليوم ضمن سياق ثقافي متداخل، بينما يأتي اعتماد مواقع مغربية تاريخية لتصوير مشاهد العمل ليطرح جملة من التساؤلات حول دلالات هذا الحضور الجغرافي، ومدى اتساقه مع الحساسيات؛ فبينما يراه البعض فرصة فنية لتعزيز حضور المغرب في خارطة الإنتاجات الدرامية، يرى آخرون أن استضافة أعمال من هذا النوع تفرض ضرورة التمييز بين الاشتغال الفني وبين الرسائل التي قد تنطوي عليها بعض الإنتاجات، خاصة حين تتقاطع مع شؤون دينية ومراحل تاريخية شديدة الحساسية.
وتعكس قصة المسلسل، وفق ما تم تسريبه من معطيات أولية، سعيًا إلى إعادة سرد تاريخ الخلافة الإسلامية من منظور تركي معاصر، يستحضر الإرث العثماني ويعيد تأويله وفق مقاربات درامية تتقاطع مع خطاب سياسي إقليمي.
وبطل العمل بشخصية حاكم مسلم يحاول إعادة بناء نموذج الخلافة في عالم يعاني من التمزق والهشاشة القيمية، وهو ما يمنح المسلسل “طابعًا تبشيريًا مموهًا في ثوب درامي”، لتقاطع مع سياسة إعلامية تركية أوسع، تسعى إلى تصدير “نماذج تاريخية مثالية”، على غرار ما شهده مسلسل قيامة أرطغرل أو المؤسس عثمان.
وقد لاقى هذا التوجه انتقادات من مثقفين ومؤرخين مغاربة اعتبروا أن السماح بتصوير مسلسل يروّج لنموذج الخلافة في فضاءات مغربية يُعدّ تهاونًا في صون الخصوصيات الثقافية للمجال الوطني؛ فالمسلسل لا يكتفي بطرح موضوع حساس دينيًا وتاريخيًا، بل يتماهى مع “سردية توسعية ناعمة” تتبناها بعض التيارات السياسية في تركيا.
في المقابل يعتبر فاعلون في المشهد السينمائي والفكري أن تصوير المسلسل التركي “الخليفة” على التراب المغربي لا يُمثل مساسًا بالثوابت، بل يُجسد تكريسًا لخيار إستراتيجي دأب المغرب على اعتماده في تعامله مع الصناعات الثقافية والإبداعية، قائم على الانفتاح العقلاني والتوظيف الرشيد لقدراته الجغرافية والتاريخية في استقطاب الإنتاجات الدولية، واما راكمته المملكة من بنية تحتية فنية وتشريعية تجعلها فاعلًا مُعترفًا به في خارطة الإنتاج السمعي البصري العالمية، دون أن تُفرط في مرجعياتها أو تساهِم في تمييع تمثلاتها الهوياتية.
ويُبرز هؤلاء أن المقاربات التي تربط بين أي عمل فني وبين أجندات أيديولوجية مفترضة تغفل التعقيد الذي يسم الحقول الثقافية المعاصرة، حيث لم تعد الرموز التاريخية حكرًا على جغرافيا بعينها، بل أصبحت موضوعًا للتداول الإبداعي والتعدد القرائي، وأن الاحتضان المغربي لهذا المسلسل لا يُعد استسلامًا، بل تعبيرًا عن ثقة ثقافية نابعة من الوعي بأن السيادة لا تُختزل في المنع، بل في القدرة على تحويل الموقع إلى فضاء لإنتاج المعنى، والتفاعل مع الآخر دون تفريط في الذات.
جدير بالذكر أن المغرب انخرط منذ عقود في استقبال وإنتاج أعمال درامية تتناول محطات تاريخية ودينية ذات حساسية خاصة، في وقت كانت دول عربية عديدة تُحجم عن ذلك لأسباب إيديولوجية أو مذهبية.
وقد احتضنت المملكة تصوير أعمال ضخمة، مثل الفيلم العالمي “الرسالة”، والمسلسل التاريخي “عمر” ، فضلًا عن الثلاثية الأندلسية “صقر قريش” و”ربيع قرطبة” و”ملوك الطوائف”.