أخبار عاجلة
أسعار الفاكهة اليوم الثلاثاء 1-7-2025 في الدقهلية -
مؤتمر دولي يهتم بالذكاء الاصطناعي -
بنسعيد وشباب العالم الإسلامي -
الهلال يصنع التاريخ في مونديال الأندية -

"غزو الحمقى" .. عصر الرقمنة يتحول إلى آلة متخصصة في تدمير الحقيقة

"غزو الحمقى" .. عصر الرقمنة يتحول إلى آلة متخصصة في تدمير الحقيقة
"غزو الحمقى" .. عصر الرقمنة يتحول إلى آلة متخصصة في تدمير الحقيقة

في العام 2015، وقبيل أن تبلغ وسائل التواصل الاجتماعي ذروة سطوتها التي نعيشها اليوم، وقف الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو أمام جمهور من الأكاديميين في جامعة تورينو، عقب تسلمه دكتوراه فخرية، ليطلق تشخيصًا حادًا وصادمًا لطبيعة هذا الطوفان الرقمي الذي بدأ يعيد تشكيل المشهد المعرفي العالمي. قال بمرارة عالم بات يراقب انهيار أحد أهم إنجازات الحضارة الإنسانية، وهو التمييز بين المعرفة والجهل: “لقد منحت وسائل التواصل الاجتماعي حق الكلام لجيوش من الحمقى، أولئك الذين كانوا في الماضي يتكلمون فقط في الحانات بعد كأس من الخمر، دون أن يضروا بالمجتمع، وكان يتم إسكاتهم على الفور. أما الآن، فقد أصبح لهم نفس حق الكلام الذي يتمتع به الحاصل على جائزة نوبل. إنه غزو الحمقى”.

كان تشخيص إيكو، في لحظة إطلاقه، بمثابة نبوءة تستشرف مستقبلًا قاتمًا أصبحنا نتخبط في وحله اليوم، ونكتشف يوميًا أبعادًا جديدة لخطورته وتعقيداته. لقد تحققت ديمقراطية الكلام، تلك، التي أتاحتها هذه المنصات الرقمية، لكنها لم تكن ديمقراطية معرفة أو حكمة كما اعتقدنا تفاؤلا في قدرتها على ربط العالم معرفيا، بل ديمقراطية ضجيج سوت بين صوت الخبير وصوت الجاهل، وبين الحجة المتماسكة والهراء المطلق، وبين التحليل العميق والانطباع العابر، فكانت النتيجة المحتومة فوضى معرفية هائلة خلقت بيئة مثالية لنمو ظواهر أكثر خبثًا وتعقيدًا مما كان يمكن أن يتخيله حتى المتشائمون.

كشف تشخيص إيكو عن طبيعة التحول الجذري في آليات إنتاج المعرفة والرأي العام في العصر الرقمي. وإذا كان “غزو الحمقى” هو الوجه الشعبي والعفوي لهذه الفوضى، فإن الوجه الآخر، الأكثر تنظيمًا وفتكًا وخطورة على مستقبل الفكر الإنساني، هو الاستغلال المنهجي والمدروس لهذه البيئة من قبل أجهزة السلطة ووزارات “البروباغندا” حول العالم، التي وجدت في السيل المتدفق من المحتوى الرقمي منجمًا لا ينضب للتضليل والتلاعب بالعقول، وأداة استثنائية الفعالية لإعادة تشكيل الوعي الجماعي وفقًا لأجنداتها المختلفة.

من التعتيم إلى الإغراق.. تطور استراتيجيات الهيمنة

إن فهم خطورة اللحظة يتطلب استيعاب التحول النوعي الذي طرأ على استراتيجيات الهيمنة والسيطرة في العصر الرقمي. فإن كانت استراتيجيات الهيمنة القديمة، التي شاعت خلال العقود الماضية، تعتمد بشكل كبير على التعتيم والحجب كآليات أساسية للسيطرة على تدفق المعلومات، أي منع المعلومة من الوصول إلى الناس عبر الرقابة المباشرة والمنع والحجب والمراقبة الصارمة لوسائل الإعلام، فإن الاستراتيجية الحديثة تقوم على نقيض ذلك تمامًا، وتمثل قفزة نوعية في تطور أساليب التحكم بالعقول: الإغراق المعلوماتي.

لم تعد الأنظمة الاستبدادية بحاجة إلى بناء جدران عازلة حول الحقيقة أو تشييد حصون لمنع تسرب الأخبار غير المرغوب فيها، فذلك أصبح مكلفًا ومعقدًا وغير مجدٍ في عالم متشابك رقميًا تصعب فيه السيطرة على تدفق البيانات بالأساليب التقليدية. الحل الجديد، الأسهل والأكثر فعالية وأقل كلفة، هو إغراق الفضاء العام المعلوماتي بأطنان من المعلومات المضللة، والأخبار الزائفة، والتحليلات السطحية المصممة لتشويش الرؤية، والمغالطات المنطقية المصاغة بحرفية عالية، ونظريات المؤامرة المصنوعة بعناية لاستهداف الغرائز الأولية للجماهير. في هذا المحيط الصاخب من البيانات المتناقضة والمعلومات المتضاربة والروايات المتنافسة، تغرق الحقيقة وتتوه وسط بحر هائل من الضوضاء المعلوماتية، ويصاب المتلقي بحالة من الإرهاق المعرفي التي تفوق قدرته على المعالجة والتمييز، فيفقد تدريجيًا القدرة على التمييز بين الصحيح والخاطئ، وبين المعقول واللامعقول، وبين الحقيقة والوهم، بل والأسوأ من ذلك كله، يفقد الرغبة في البحث عن الحقيقة أصلًا، ويستسلم لأبسط السرديات وأكثرها إثارة لغرائزه الأولية ورغباته في التأكيد والانتماء.

يمثل هذا التحول من الندرة المعلوماتية إلى الوفرة المضللة قمة التطور في تقنيات السيطرة الناعمة، لأنه يحقق أقصى درجات الفعالية مع الحفاظ على مظاهر الحرية والديمقراطية. فالجمهور لا يشعر بأنه محروم من المعلومة أو مقيد في حصوله عليها، بل يعتقد أنه يتمتع بحرية مطلقة في الوصول إلى كل ما يريد معرفته. هذا الوهم بالحرية المعلوماتية، في ظل واقع التضليل الممنهج والخفي، هو ما يجعل هذا النوع من السيطرة أكثر خطورة من أشكال الرقابة التقليدية، لأنه يحول دون تشكل وعي نقدي حقيقي بطبيعة المشكلة، ويمنع بالتالي تطوير استراتيجيات مقاومة فعّالة.

تحول الحمقى إلى جنود.. آليات التوظيف اللاواعي

وهنا، في قلب هذه المنظومة المعقدة، يعود “جيش الحمقى” الذي تحدث عنه إيكو ليلعب دورًا يتجاوز بكثير مجرد ممارسة حق الكلام البريء أو التعبير العفوي عن الآراء الشخصية. لقد تحول أفراد هذا الجيش، بوعي أو بغير وعي، وفي معظم الأحيان بغير وعي تام، إلى جنود مشاة في خدمة آلة البروباغندا الجديدة هذه، يقومون بمهام التضليل والتشويش دون أن يدركوا خطورة ما يفعلونه أو العواقب بعيدة المدى لسلوكياتهم الرقمية. الأمر لم يعد يقتصر على إبداء رأي غبي أو ساذج كما كان يحدث في “أحاديث الحانة”، بل تطور إلى مشاركة فعالة ونشطة في الترويج المقصود للإشاعات والمغالطات والأكاذيب المصنعة، ليس بالضرورة عن قناعة أيديولوجية راسخة أو انتماء سياسي واضح، بل لشيء قد يكون أكثر عبثية وأشد إثارة للقلق: من أجل الترفيه والإثارة والحصول على لحظات من الشهرة الافتراضية.

لقد تحولت عملية اختلاق الأكاذيب ونشرها إلى نوع من الألعاب الترفيهية، ورياضة يتنافس فيها المشاركون على تحقيق أكبر قدر من الانتشار والوصول (التريند)، واختلاق الرواية الأكثر غرابة وإثارة للجدل، وجذب الانتباه بأي ثمن، والحصول على أكبر عدد من التفاعلات والمشاركات والتعليقات. في هذه اللعبة المدمرة، لا قيمة للحقيقة أو الدقة أو المسؤولية الاجتماعية، بل كل القيمة للإثارة والسبق الإعلامي والمشاركة في الحدث الرقمي، مهما كانت طبيعة هذا الحدث أو درجة مصداقيته. هذا التحول الخطير من الحمق السلبي إلى صناعة الوهم النشطة على نطاق جماهيري واسع، هو ما يجعل هذه الجيوش أداة شديدة الخطورة في يد كل من يريد تشويه الحقيقة أو تضليل الرأي العام، لأنها تخدم أجندات التضليل بحماس منقطع النظير، وبشكل مجاني تمامًا ودون توقع مقابل مادي، معتقدة أنها تمارس شكلًا بريئًا من أشكال التسلية والتفاعل الاجتماعي.

إن هذا النوع من التوظيف اللاواعي للجماهير في عمليات التضليل يمثل قمة التطور في استراتيجيات الهيمنة الناعمة، لأنه يحول الضحايا إلى متواطئين فعالين في عملية تضليل أنفسهم والآخرين، دون أن يشعروا بأي تناقض أخلاقي أو مسؤولية اجتماعية تجاه ما يفعلونه. هؤلاء الأشخاص لا يرون أنفسهم كأدوات في آلة التضليل، بل كمشاركين أحرار في فضاء ديمقراطي مفتوح، وهذا الوهم بالحرية والمشاركة الطوعية هو ما يجعل هذا النوع من التوظيف أكثر فعالية من أي شكل من أشكال التجنيد المباشر أو الإكراه الصريح.

الترفيه كقناع للتدمير.. عندما تصبح الحقيقة لعبة

من أخطر تجليات هذه الظاهرة هو التحول التدريجي لمفهوم الحقيقة نفسه من قيمة معرفية وأخلاقية أساسية في بناء المجتمعات والحضارات، إلى مجرد مادة خام للترفيه والتسلية. في هذا السياق الجديد، لا تُقيم الأخبار والمعلومات والآراء بناءً على مصداقيتها أو دقتها أو قيمتها المعرفية، بل بناءً على قدرتها على الإثارة والتشويق وجذب الانتباه. هذا المنطق المدمر يخلق بيئة تنافسية مشوهة، حيث تصبح الحقيقة المملة والمعقدة غير قادرة على المنافسة أمام الكذبة الملونة والمثيرة، ويصير التحليل العميق والمتأني عاجزًا عن جذب الانتباه في مواجهة النظرية المؤامراتية البسيطة والصادمة.

هذا التدهور في معايير التقييم والاختيار لا يقتصر تأثيره على جودة المحتوى المتداول، بل يمتد ليعيد تشكيل طريقة تفكير الجمهور نفسه وتوقعاته من المعلومة. فحين يعتاد الناس على استهلاك المعلومة كوسيلة ترفيه أولًا وقبل كل شيء، يفقدون تدريجيًا القدرة على الانخراط الجدي مع المواضيع المعقدة التي تتطلب صبرًا وتركيزًا وجهدًا معرفيًا. النتيجة هي تبسيط مفرط وضار للقضايا الجوهرية، وتحويل النقاشات المهمة حول مصائر الشعوب والأوطان إلى مجرد مادة للجدال والتسلية والتفريغ العاطفي.

هذا التحول في طبيعة العلاقة مع المعرفة والمعلومة يخدم بشكل مثالي أجندات التضليل والتلاعب، لأنه يخلق جمهورًا مستعدًا للتنازل عن الدقة والتعمق مقابل الحصول على جرعات سريعة من الإثارة والتحفيز العاطفي. في هذه البيئة، تصبح الأكاذيب المصنعة بمهارة أكثر جاذبية وانتشارًا من الحقائق المعقدة، ويصبح التلاعب بالعواطف أكثر فعالية من الاستدلال بالحجج والبراهين.

المقاومة بالانتقائية.. البحث عن جزر النجاة المعرفية

في خضم هذا الطوفان المدمر من المعلومات المضللة والضوضاء المعرفية، وحين يتعلق الأمر بقضايا مصيرية كالحروب والصراعات الدولية التي تشكل مصائر الشعوب والأوطان، يصبح فعل المتابعة الإخبارية التقليدية ضربًا من العبث الخطير، ومصدرًا مباشرًا للإرهاق النفسي والضلال الفكري والتشويش المعرفي. لقد أصبح من الضروري، لمن أراد أن يحافظ على سلامة تفكيره وقدرته على الفهم والتحليل، ممارسة نوع من الانتقائية الدفاعية الواعية، والتوقف النهائي عن متابعة ما يُكتب ويُنشر ويُبث في الفضاء العام، إلا ما يصدر عن عدد قليل ومحدود جدًا من الأسماء والمصادر التي بنت رصيدًا من الثقة والمصداقية عبر سنوات طويلة من العمل الجدي والموثوق.

إن محاولة الوصول إلى هذه الأصوات العاقلة والموثوقة وسط هذا البحر المتلاطم من الفوضى المعلوماتية، تشبه اليوم محاولة البحث عن إبرة في كومة هائلة ومتنامية من الضوضاء والتضليل، وهو جهد شاق ومرهق نفسيًا، لكنه ضروري وحيوي لمن أراد أن يحافظ على سلامة عقله وقدرته على الفهم والتمييز في عصر بات فيه التمييز بين الحقيقة والوهم تحديًا يوميًا يتطلب يقظة وانتباهًا مستمرين.

هذا الانسحاب الواعي من الصخب الرقمي هو بالضرورة فعل مقاومة واعٍ ومدروس وإعادة تعريف جذرية لعلاقتنا بهذه المنصات والأدوات التي وُعدنا بأنها ستجعلنا أكثر اتصالًا بالعالم وأكثر معرفة واطلاعًا، فإذا بها تجعلنا أكثر عزلة داخل فقاعاتنا الافتراضية، وأكثر ضياعًا في بحر لا متناهٍ من الأوهام والتصورات المشوهة عن الواقع.

إن الدرس الأهم الذي يمكن استخلاصه من تشخيص إيكو وتطوراته اللاحقة، هو أن المعركة من أجل الحقيقة في العصر الرقمي لا تُخاض بالضرورة في الساحات العامة المكتظة بالضوضاء، بل في المساحات الهادئة حيث يمكن للفكر أن ينمو ويتطور بعيدًا عن صخب الجماهير وضغط اللحظة. ربما تكون الخطوة الأولى والأساسية لاستعادة بعض من التوازن المفقود والسيطرة على جودة ما نستهلكه من معرفة، هي أن نعترف بصراحة ووضوح، كما فعل إيكو في تشخيصه الجريء، بأن “الغزو” قد تم بالفعل وحقق انتصارات حاسمة، وأن علينا الآن، بدلًا من الاستمرار في خوض معارك خاسرة في أرض العدو وبأدواته وقواعده، أن نبحث عن قلاعنا وحصوننا المعرفية الخاصة، ونبني شبكات ثقة صغيرة وموثوقة، ونطور معايير صارمة للتفكير النقدي، لنتمكن من البقاء والمقاومة في هذا العصر الذي اختلطت فيه الحقائق بالأوهام اختلاطًا يكاد يكون كاملًا.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق أمسية أدبية تستعرض مسار البجوقي
التالى الاتحاد يطلب ضم موهبة الأهلي ضمن صفقة مروان عطية