في ظل ارتفاع حدة الاستفزازات المتكررة من جبهة “البوليساريو” التي تستهدف المغرب، آخرها إطلاق مقذوفات على مدينة السمارة أول أمس الجمعة، دون وقوع أي إصابات؛ تعتمد الرباط، حسب مهتمين، على مقاربة استراتيجية هادئة تقوم على الصبر التكتيكي وضبط النفس المدروس، باعتبارهما أدوات فاعلة في إدارة الصراع منخفض الحدة دون التفريط في عناصر ردع أية تحركات يمكن أن تشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي وللمصالح المغربية في المنطقة.
وأكد متتبعون لتطورات قضية الصحراء، في تصريحات لهسبريس، أن هذا النهج المغربي يندرج ضمن رؤية سياسية شاملة تراهن على كسب المعركة في فضاءات الشرعية الدولية والمؤسسات متعددة الأطراف، دون الانجرار وراء فخاخ الاستنزاف الميداني أو الحروب غير المتماثلة، رغم أن المملكة لا تفرط أبدا في مقاربة الحزم، بل وتعيد تعريف هذه المقاربة في إطار معادلة استراتيجية تجعل من التحكم في توقيت وشكل الرد أحد أهم مفاتيح إدارة هذا النزاع الإقليمي وتكريس التفوق السياسي والعسكري فيه.
تحكم وصبر
قال هشام معتضد، باحث في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، إن “المغرب يُظهر قدرة واضحة على التحكم في إيقاع الردود، بما يعكس نضجا في مقاربة إدارة التهديدات منخفضة الحدة؛ فالخيار المغربي يقوم على امتصاص الصدمات دون الانجرار إلى مواجهات مفتوحة، مع الإبقاء على عنصر التفوق المعنوي والدبلوماسي، حيث يكشف هذا النهج عن عقلانية استراتيجية تتجنب فخاخ الاستنزاف الميداني”.
وأضاف معتضد، في تصريح لهسبريس، أن “سياسة المغرب بهذا الخصوص تمثل مقاربة هجينة تجمع بين الحزم الهادئ واليقظة الدائمة؛ ذلك أن الرباط تعي بأن أي تحرك انفعالي قد يمنح خصومها فرصة للعب ورقة المظلومية أمام المنتظم الدولي. ومن هنا، جاء التركيز على ضبط النفس الميداني، مع استمرار تطوير وسائل الردع غير المباشر”.
وأبرز الباحث في الشؤون الأمنية والاستراتيجية أن “هذه المقاربة تمنح المغرب هامش مناورة واسعا أمام المؤسسات الدولية، وتُبقي خصومه في موقف المتهم أو المعتدي؛ لأن الرهان المغربي هو على إدارة المعركة على المستويين القانوني والدبلوماسي، بالتوازي مع المحافظة على جهوزية القوة العسكرية متى استدعت الضرورة”.
وسجّل المتحدث ذاته أن “تكرار هذه المحاولات الاستفزازية سيُدخل المنطقة في دائرة جديدة من الحسابات العسكرية؛ لكنه لن يؤدي بالضرورة إلى انفجار شامل، حيث إن السيناريو الأقرب هو تعزيز القدرات الدفاعية للمغرب في المناطق القريبة من خطوط التماس، وربما تطوير آليات رصد مبكر أو تنفيذ عمليات تطويق محدودة للحد من قدرة الجبهة على المناورة”.
وأشار معتضد إلى أن “هناك أيضا احتمال لجوء المغرب إلى تكتيك الضربات الموضعية كرسائل تحذيرية محسوبة، دون السقوط في خيار الحرب المفتوحة. كما أن هناك سيناريوها غير مستبعد تماما يتمثل في تحوّل قواعد الاشتباك إذا ما تجاوزت هذه العمليات سقف التحمل المغربي، خصوصا إذا طالت منشآت أو أرواحا.. وحينها، قد يصبح الرد القوي ضرورة عسكرية ودبلوماسية في آن واحد، لفرض معادلة ردع جديدة”.
وشدّد الباحث في الشؤون الأمنية والاستراتيجية على أن “النهج المغربي في ضبط النفس يُعد أداة ناجعة لتقوية شرعية موقفه على الساحة الدولية؛ فهو يكشف بوضوح أي طرف يقف وراء الاستفزازات ويحرجه أمام القوى الكبرى”، مؤكدا أن “نجاح المغرب يكمن في الموازنة بين الصبر الاستراتيجي وبين تأكيد الجاهزية العملياتية؛ أي أن الرباط بحاجة إلى سياسة اتصالية قوية تُبرز أن ضبط النفس خيار واعٍ ومدروس، وليس نتيجة ضعف أو تراخٍ، حتى يُدرك الطرف المقابل حدود ما يمكنه فعله دون مواجهة تبعات ثقيلة”.
وخلص إلى أن “تطور الوضع الميداني قد يفرض على المغرب مراجعة معاييره فيما يتعلق بالتعامل مع التهديدات الصادرة من المناطق العازلة؛ فاستمرار الاعتداءات دون رد ميداني قد يرسخ صورة خاطئة لدى الجبهة بأنها قادرة على التحرك بحرية في تلك المناطق دون عواقب”، لافتا إلى أن “تعديل قواعد الاشتباك لا يعني بالضرورة التوجه نحو الحرب؛ بل يمكن أن يأخذ شكل إعادة تموضع للقوات، أو فرض رقابة مشددة على المناطق التي تُستغل كنقاط انطلاق للهجمات. وبهذا، يجمع المغرب بين إظهار القوة وبين حماية مكتسباته الميدانية في الصحراء”.
ورطة انفصالية
أبرز محمد الغيث ماء العينين، عضو المركز الدولي للدبلوماسية وحوار الحضارات، أنه “لا يمكن القول أبدا بأن المغرب يتعامل بأقل مما يجب أن يكون عليه الحال من الحزم تجاه استفزازات الكيان الانفصالي في تندوف”.
وأضاف ماء العينين، في تصريح لهسبريس، أن “المغرب أظهر حزما كبيرا في التعامل مع مختلف استفزازات الجبهة، خاصة ذلك الاستفزاز الكبير الذي وقع في سنة 2020 لما حاول عناصر “البوليساريو” السيطرة على طريق معبر الكركرات وتدخلت القوات المسلحة الملكية لتأمينه، إلى جانب تطهير الوجود الانفصالي في مناطق خلف الجدار”.
وسجل عضو المركز الدولي للدبلوماسية وحوار الحضارات أن “المغرب يتفاعل مع هذه الاستفزازات اليائسة ويتعامل معها بالطرق المناسبة”، لافتا إلى أن “المغرب اتخذ مجموعة من المسارات والخطوات في هذا الصدد؛ أبرزها تأمين المناطق السكنية في الصحراء وتنمية الأقاليم الجنوبية وتحويلها إلى منصة تنموية قارية وبوابة نحو إفريقيا، من خلال مجموعة من المشاريع والاستثمارات الأجنبية التي تتدفق على الصحراء والتي لا تُترجم مجرد خطوة سياسية أو دبلوماسية للتعاطف مع المغرب، بل خطوة براغماتية؛ ذلك أن هناك إمكانيات ربح مهمة عبر الاستثمار في الصحراء المغربية”.
وأشار المتحدث ذاته إلى “سقوط وهم الأراضي المحررة شرق الجدار العازل في الصحراء مقابل استمرار جبهة “البوليساريو” في توريط نفسها من خلال مثل هذه الأعمال العدائية ضد المغرب، خاصة أن الحادث الأخير يأتي تزامنا مع طرح مشروع قرار في الكونغرس الأمريكي لتصنيف جبهة “البوليساريو” منظمة إرهابية من لدن عضوين في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وقبلها دعوات في البرلمان الأوروبي لوضع هذا التنظيم الانفصالي على قوائم الإرهاب بعد قتل مدنيين في السمارة”.
وفي هذا الصدد، ذكر عضو المركز الدولي للدبلوماسية وحوار الحضارات أن “تبني الكونغرس الأمريكي لمشروع هذا القرار من شأنه أن يُحيي المطالبات التي طالما تقدمت بها المملكة المغربية، علاقة بالأنشطة التي تقوم بها “البوليساريو” في المنطقة”.
وأجمل ماء العينين أن “حوادث قصف السمارة ليست لها أي تأثير استراتيجي، وإنما تُسرّع فقط وتدعم حجج المغرب لوضع “البوليساريو” على قوائم الإرهاب. كما تضع هذه الحوادث الدولة الجزائرية في مأزق كبير، على اعتبار أن تمرير القرار سيجعل منها بالضرورة دولة راعية للإرهاب وممولة له”.