في المدن المعاصرة لا شيء يعبّر عن الحداثة المقلوبة مثل مرْكبة التريبورتور. عربة بثلاث عجلات ظهرت ذات أزمة اقتصادية كحَلّ عبقري لمعضلة البطالة، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى تجسيد حيّ لفشل التخطيط الحضري، بل وإلى أداة لإعادة توزيع الخوف في الشوارع. لم يعد التريبورتور مجرد وسيلة نقل، أضحى إعلان حرب متنقل؛ يصيح محركه في آذان المارة بأن لا أحد في مأمن، لا طفل على الرصيف ولا عجوز في منتصف الطريق.
كان من الممكن أن يكون هذا الاختراع الصيني الوديع وسيلة نبيلة لكسب العيش، بيد أنه، وكما يحدث غالبًا مع الأفكار الجيدة، اختُطف بسرعة من قبل العبقرية المحلية، وأُعيد توظيفه في الفوضى؛ وسرعان ما أصبح وسيلة لإثبات التفوق على قوانين الفيزياء، وقوانين السير، وحتى قوانين الأخلاق؛ يقوده شاب غاضب، بعينين تلمعان كما تلمع عيون المحارب قبل المعركة، وساعة ذكية على معصمه لتضبط التوقيت المثالي للدهس العرضي.
المثير أن هذه المركبة لم تقتل أحدًا بيديها، فليست لها يدان، لكنها تتحرك بثقة القاتل المتسلسل، تتقدم في الشارع كما لو كانت الوحيدة التي دفعت ثمن الرصيف. ورغم افتقارها لأي مقومات الأمان، أو أي التزام بالحُدود المرسومة، فإنها تعيشُ معَنا يوميا، كأنها فردٌ من العائلة، مزعج لكن لا يمكنك طرده.
ما يثير الإعجاب (أو القشعريرة) هو قدرتها على التسلل إلى كل زقاق، كل سوق، كل فج عميق من المدينة. تقف في أماكن يُمنع فيها الوقوف، وتدخل إلى مناطق لا تدخلها حتى سيارات الإسعاف. ورغم هذا الحضور الطاغي لم نسمع يومًا أن أحدًا اقترح أن نعاملها باعتبارها” تهْديدًا أمنيا”.
سائقُ التريبورتور كائن مُركّب من الغضب والعرق والاحتقار الكامل لقوانين الفيزياء، لا يعترف بالمكابح، ويستعيض عنها ببوق مبحوح وبنظرات التحدي؛ يقترب منك بسرعة وهو يصرخ: “رد بالك!”، كأنما يمنحك لحظة أخيرة لمراجعة وصيّتك، في مساهمة مبتكرة من أدب التحذير الحضري الأسود.
يعرف الجميع أنه خطير، لكن لا أحد يفعل شيئًا، لأن الجميع أيضًا مقتنع بأن وجوده “ضروري” للطبقة الكادحة. إنه التواطؤ الأخلاقي الجميل: نعلم أن التريبورتور يقتل، لكنه يقتل من أجل لقمة العيش.
الغريب أن الأرقام لا تكذب. الحوادث المرتبطة بهذه المركبة تتزايد، لكن الإحصاءات، مثل الضمير العام، غائبة في إجازة مفتوحة. لا أحد يعرف عدد الأرواح التي أُزهقت، فقط لأن أحدهم قرر أن يحمل ثلاجة فوق عربة بثلاث عجلات، ويمرّ بها بين أطفال عائدين من المدرسة.
لكن دعونا نكون منصفين. الدولة لم تقصّر تمامًا، فهي خصصت لهم إشارات مرور لا يعمل بها أحد، ووضعت قوانين لا يقرؤها أحد، وربما نظّمت حملات تحسيسية لم يسمع بها أحد. وحتى إن لم تفعل فربما كانت تفكر في أن التريبورتور أذكى من أن يحتاج إلى قوانين — فهو كائن حي يتكاثر في الشوارع مثل الفطر بعد المطر.
وفي وقت يتحدث علماء الاجتماع عن العنف الرمزي والعنف الهيكلي يأتي التريبورتور ليمنحنا عنفًا ملموسًا، محسوسًا، يُدهس تحت عجلاته كل ما تبقى من النظام؛ إنه فلسفة في الحياة: امضِ بسرعة، لا تنظرْ خلفك، لا تهتم بمن في طريقك، المهم أن تصل أولًا… إلى أين؟ لا أحد يدري.
يُقال إن المدينة فضاء للعيش المشترك، ومساحة مفتوحة للنجاة الفردية. والحقيقة أن التريبورتور ينجو، لا فقط من الحوادث، وإنما من الغرامات، من الرادار، من القانون، ومن كل أشكال المحاسبة.
هل نحتاج إلى حل؟ ربما. لكن ما هو؟ هل نمنع التريبورتور؟ سيقول لك أحدهم: “وهل تملك الدولة الجرأة على تجويع الآلاف؟”، هل ننظم القطاع؟ سيُقال لك: “التنظيم مكلف، والفوضى أرخص”. وبين هذا وذاك يواصل التريبورتور دهسه الهادئ للحياة اليومية، ونحن نواصل التفرج، نكتب المقالات، وربما نضحك بمرارة.
في نهاية المطاف التريبورتور ليس قاتلًا محترفًا؛ هو مجرد فكرة جيدة تم اغتيالها بسوء النية، وبقليل من البلاهة التنظيمية؛ هو المرآة التي تنعكس فيها أزماتنا كل صباح، لكنها مرآة ثلاثية العجلات، لا تملك الوقت لتدعنا نتأمل ملامحنا، بل تدهسنا برشاقة وتُكْمل طريقها… إلى الضحية التالية.
عن التروتينيت: مركبةٌ بعجلتين ونصف عقل
لم يكن ينقص مدننا سوى أن تتحول إلى حلبة مفتوحة لسباق العجلتين. فجأة، استيقظت الأرصفة على غزو التروتينيت، كأن الحياة قررت أن تمارس علينا رياضة جماعية بدون اتفاق مسبق. مدينة بأكملها تحوّلت إلى مضمار، ليس للْعَدْو أو الدراجة الهوائية كما كان يحلم الأطفال ذات زمن، بل لعجلات كهربائية صغيرة، نصفها معطوب قبل نهاية الأسبوع الأول من شرائها.
ما إن تغادر بيتك حتى تشعر بأنك داخل لعبة فيديو من النوع الرديء: تقفز من حفرة، تتجنب سيارة، ثم تجد أمامك شابًا مسرعًا على تروتينيت، يرتدي سماعات، ولا يعرف ما إذا كان في الدار البيضاء أو في مدخل روما. لكن الفرق أن اللعبة في الشاشة تنتهي عندما تصطدم. أما هنا، فالاصطدام جزء من اليومي، ولا أحد يعتذر.
العجيب أن التروتينيت عندنا ليست وسيلة نقل بقدر ما هي إعلان شخصي عن التمرد الناعم؛ لا أحد يركبها وهو ذاهب إلى العمل بجدية، هي تصلح فقط للذهاب إلى المقهى أو لشراء قنينة ماء معدني، أو للتباهي بأنك «متقدم حضاريًا»، حتى لو كنت تجهل اسم الشارع الذي تسير فيه بسرعة 10 كيلومترات في الساعة.
في باريس وبرلين وروما بدأوا منذ سنوات معاقبة هذه الفوضى. قوانين واضحة: التروتينيت له مساره الخاص، من يخالف يدفع غرامة، ومن يرميها وسط الرصيف يُعامل كمن يرمي كيس زبالة في مدخل متحف. هناك فكرة أن المدينة فضاء عام، وأن الفضاء العام ليس لعبة شخصية. أما عندنا فكل شيء يتحول إلى تمرين على كيفية جعل الفوضى تبدو وكأنها حرية.
صاحب التروتينيت يشعر بأنه فوق القوانين، فوق الأرصفة، وفوق فكرة التعايش نفسها.
في شوارع مدريد وبرلين التروتينيت ليست لعبة، إنها خاضعة لنظام، لخرائط، لتطبيقات دقيقة، لعلامات مرور. أما عندنا فالعربة بلا وجهة، والسائق بلا غاية، والقوانين بلا ذاكرة.
السلطات تتعامل مع الظاهرة كما يتعامل المرء مع عصفور دخل المطبخ: كثير من الارتباك، قليل من الفهم، ثم قرار بعدم التدخل حتى تنتهي المشكلة من تلقاء نفسها. لكن الطيور تطير، والتروتينيت تبقى، وتتكاثر كالفطريات.
الطريف أن أغلب من يستخدم هذه العجلات الصغيرة لا يعرف حتى قواعد استخدامها. تراهم يسيرون عكس الاتجاه في الشوارع، يصعدون بها فوق الأرصفة وسط المشاة، أو يقفون بها فجأة أمام باب دكان، كأنما قرروا أن يخترعوا مفهومًا جديدًا للوقوف الاضطراري.
في المدن الأوروبية التي استفاقت مبكرًا من وهم العجلتين العشوائيتين لم يكن الأمر يتعلق فقط بالسلامة أو بالنظام، بل بفكرة أعمق: كيف تحافظ المدينة على ملامحها، كيف لا تتحول الأرصفة إلى مسرح عبثي، كيف لا يتحول المشي البسيط إلى مغامرة بهلوانية مهددة بالكسر.
أما مدننا فتحب دائمًا أن تختبر حدود الفوضى قبل أن تعترف بأنها فوضى. نُدخل الظواهر بدون دليل استعمال، ونرمي المسؤوليات في حضن الزمن. التروتينيت ليست مشكلة تقنية بقدر ما هي مشكلة ذهنية، تتعلق بموقفنا من فكرة النظام أصلًا.
ولأننا بارعون في تحويل أي فكرة إلى مظهر اجتماعي صار امتلاك تروتينيت يرمز إلى نوع من الانتماء إلى الطبقة الوسطى المزيفة: لا نملك سيارة، لكننا أيضًا لا نمشي على أقدامنا «مثل الفقراء». هو تمرين دائم على الوقوف بين منزلتين: كائن نصف متحرك ونصف فوضوي.
لم نفكر يومًا في أن المشي نعمة، وأن السَيْر على القدمين هو الفعل البسيط الذي يعيد الإنسان إلى إيقاعه الطبيعي، إلى قدرته على التفكير دون وساطة محركات كهربائية صغيرة. التروتينيت اختراع مُسلٍّ حين يُستخدم بعقل؛ أما عندنا فالعقل آخر ما نحمله ونحن نحمل العجلتين بين الزحام. الغريب أن التروتينيت كان من المفترض أن يحل مشكلات النقل القصير، بيد أنه عندنا خلق مشكلة طويلة الأمد مع فكرة المدينة ذاتها: هل نريد مدينة صالحة للحياة أم نريد سيركًا مجانيًا للمتجولين الفوضويين؟ هذا هو السؤال الذي لا يريد أحد أن يطرحه.
نحن لا نفتقد وسائل النقل، نحن نفتقد الفكرة؛ الفكرة التي تقول إن النقل جزء من الحياة المشتركة، لا من الهروب الفردي الصغير من واقع مزعج. نريد مدينة تمشي لا مدينة تتعثّر، نريد رصيفًا يمكن أن تمشي عليه دون أن تحس بأنك دخلت فيلم مطاردة سيئ الإخراج.
هكذا تتحول التروتينيت من اختراع بسيط إلى ملهاة حضارية. اختراع كان يفترض أن يكون وسيلة للراحة فإذا به يتحول إلى مرآة لعجزنا عن تنظيم أبسط تفاصيل حياتنا اليومية. عجلات صغيرة تختصر أزمة كبيرة: أزمة العقول قبل الأرصفة.
عن عجلات سيدي رحّال
في البلدان التي تحترم حياة الإنسان يكون الشاطئ امتدادًا للراحة، لا مدرجًا للقتل العرضي. أما في سيدي رحّال الشاطئ فقد صار الرمل مدرج إقلاع لفوضى ميكانيكية بلا عقل، حيث تختلط حدود البحر بمسارات السيارات، وتصير الطفولة عائقًا طفيفًا في طريق نزوة السرعة، كما لو أن اللعب على الشاطئ جريمة، والسيارات وحدها تملك حق التجوال فوق البراءة.
غيثة، الطفلة التي لا تحمل من أسلحتها سوى براءتها، مازالت ترقد في المستشفى، جمجمتها المتصدعة تلخّص المشهد كله: إفلاس القيم، إفلاس الرقابة، إفلاس المعنى ذاته من عبارة “فضاء عمومي”، حتى صارت للفراغ الأخلاقي سلطة أكبر من سلطة القانون.
لنتخيل المشهدَ كما كان: طفلة تلعب بالرمل، تحفر طريقها الصغير نحو المستقبل، فإذا بسيارة رباعية الدفع تقرّر فجأة أن البحر ملك خاص للسائق، وأن الرمال تصلح أكثر لترك بصمات العجلات بدل آثار الأقدام الصغيرة. ما حدث لم يكن تهورًا عرضيًا، وإنما نموذجًا فجًّا لفلسفة كاملة تحكم علاقتنا بالمكان: السلطة تبدأ من المقْوَد، والهيْبَة تُقاس بحجْم العَجلات، بينما الأطفال مُجرد تفاصيل ثانوية يمكن تجاوزها دون كثير عناء. لم يعد “سيدي رحال” شاطئًا؛ صار ساحة معركة مؤقتة، حيث المدنيّون أهداف سهلة، والسيارات مدافع مُتحركة.
تتحدث التقارير الطبية عن حالة حرجة، والتقارير الإعلامية عن “تحقيقات جارية”، أما تقاريرنا الأخلاقية فقد تعطّلت منذ زمن بعيد، منذ أن آمنّا بأنّ القانون يُطبق حسب “الوُجوه”، وحسب حجم السيارة. موت مع وقف التنفيذ، وجرائم موقعة بختم “الصدفة”، وبلاغات رسمية تبرر كل شيء بالجاذبية: “السيارة فقدت السيطرة”، كأن العجلات انزلقت بفعل موجة عابثة، لا بسبب تواطؤ مجتمع بأكمله مع ثقافة الإفلات من العقاب. من سمح للسائق بالدخول؟ من تهاون في المراقبة؟ من تواطأ بالصمت؟ هذه الأسئلة لا تُطرح لأننا نعلم الإجابة مسبقًا: الكل مسؤول، والكل غائب، والكل ينتظر موجة حرّ جديدة لتمحو الخبر من الذاكرة الجماعية.
السؤال الآن ليس من دهَس غيثة، بل من دهَس فكرة الحماية أصلاً؟ ومن منح السّيارات حقَّ السير فوق الرمال وأجساد الأبرياء؟.
ترقد غيثة الآن بين الحياة والموت، بينما نحن نستجمُّ في منطقة رمادية بين الغضب واللاّمبالاة. نغضب قليلًا، نكتب مقالات ساخنة، ثم ننام كأن شيئًا لم يكن. وقبل أن أنهيَ هذا الحديث المبتل بدمعة غيثة أتساءل مرة أخرى: هل الشاطئ مكان للراحة أم مساحة للإجرام العرضي؟
الجوابُ في صدى بكاء أمٍّ تَرجُو أن تستيقظ طفلتها… لا أن تُدفن.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.