أخبار عاجلة
تعليق رونالدو على تجديد عقده مع النصر -

حكاية "مهرجان موازين" .. تأسس في عام 2001 واستيقظ فجأة سنة 2005

حكاية "مهرجان موازين" .. تأسس في عام 2001 واستيقظ فجأة سنة 2005
حكاية "مهرجان موازين" .. تأسس في عام 2001 واستيقظ فجأة سنة 2005

في خضم العروض الراقصة والميكروفونات المفتوحة على نغمات لا تتوقف عن تكرار نفسها، يطلُّ علينا مهرجان “موازين” في دورته الحالية مزهواً بعشرينية افتراضية لا تستقيم مع الأرقام ولا مع الذاكرة الثقافية لمن عايشوا البدايات.

يقال لنا إن المهرجان يحتفل هذه السنة بمرور عشرين عاماً على انطلاقته، وكأن عام 2001 لا يدخل ضمن تقْويم المنظمين، أو كأن “السنة الأولى” كانت بْرُوفة سرية لا تليق بالعرض الرسمي. فهل دخلنا زمن “النكوص المحترف” حيث يُعاد تشكيل الماضي حسب مقاسات الحاضر الإعلامي، أم أن ثمة من اكتشف فجأة أن محْو الذاكرة أوْلى من مُواجهة أسئلتها؟

لقد تأسس مهرجان” موازين” سنة 2001، وكان منذ ولادته مشروعاً جاداً لبناء الجسور بين الثقافات، جسور من موسيقى العالم، ومن نبض إفريقي لاتيني مغربي عالمي، جسور لا تعرف التكرار الرتيب ولا الخضوع لمنطق السّوق وحده. لا حاجة هنا إلى سجال حسابي، فالأرقام لا تكذب، لكن يبدو أن الكذب أصبح فناً من فنون البرمجة الثقافية الجديدة ببلادنا، يُطوّعُ المعطيات، ويصنعُ احتفالية مَبتورة تنطلق من حيث يريد المنظم لا من حيث كانت انطلاقتها الفعلية.

هل يمكن اختزال “موازين” في حفلات الرقص الجماهيري والأصوات التي تملأ الفضاء بالضجيج أكثر من الفن؟ من نسي روب غرييه الذي لم يكن مطرباً، بل مفكراً ومجدداً في الرواية الجديدة، من نسي أدونيس وهو يتلو قصائد على منصة كانت ذات يوم تتسع للإنصات؟ من نسي نصير شمة وهو يعزف العود كما يعزف شاعرٌ على وتر الروح؟ من نسي سيزاريا إيفورا، تلك التي غنت للحنين حافية، فحرّكت أفئدة مدينة كاملة؟ ومن نسي الدمى الفلبينية التي كانت تسكن الخيال، لا فقط ساحة حديقة التجارب؟ كلهم وغيرهم ضيوف مرّوا من ردهات المهرجان في أولى دوراته.

لم تكن إفريقيا غائبة آنذاك، بل كانت النغمة السمراء الأبرز في “موازين”، تحضرها فرق من مالي والسنغال والكونغو وغيرها، تحمل معها ذبذبات لا تُبث على موجات FM، لكنها تعبُر مباشرة إلى القلوب؛ مثلما كانت أمريكا اللاتينية أيضاً تحضر بأصوات من الشيلي والأرجنتين وكولومبيا تغني للحب والمقاومة؛ فأين اختفى هذا العمق؟ هل تم إقصاؤه عمداً أم خجلاً؟

لقد أصبح المهرجان، في صيغته الجديدة، نسخة باهتة من نفسه، أو من لا أحد. مهرجان بلا ذاكرة، بلا هوية، بلا تنوّع. مجرد تكرار موْسمي لصخبٍ يَسْتهلكُ نفسه في ليلتين. فهل يُعقل تغييب المثقفين بحُجة أن الحفلات ليست مكاناً للأسئلة؟ وهل صار الاحتفاء بالفن معادياً للمعرفة؟ ثم من قرر أن الفن الجيد لا يليق بمنصات المهرجان؟ أليس في ذلك خيانة لفكرة التأسيس التي راهنت منذ البداية على التعدد والاختلاف والعمق؟

الواقع أن مهرجان “موازين”، كما نعرفه اليوم، يشبه ما تبقى من ذاكرة تم تفريغها عن سبق إصرار، مهرجان يحتفل بنفسه لا بما يُقدّم، يعيد ترتيب تاريخه كمن يعيد إنتاج سيرة ذاتية محسّنة للقبول في وظيفة ترفيهية.

حين نفكّر في الفرق بين “موازين” الأمس- ونقصد بذلك سنواته الخمس الأولى، تلك التي كانت تُدار بالإلهام لا بالحسابات- وبين “موازين” اليوم، لا يسعنا إلا أن نقارن بين صوت العود وصوت آلة الـ”ديجي”، التي تعتقد أن الإيقاع هو كل ما يلزم لإقناع الجمهور.. بين جمهورٍ كان يصمتُ ليُصغي، وآخر يصرخ فقط ليظهر في الكاميرا.. بين منصةٍ كانت تُجري حوارًا حيًّا بين الثقافات، ومنصةٍ تكرّر نفسها كل عام، بلغاتٍ مختلفة وأسماءٍ جديدة، لكن بالنتيجة نفسها: صخبٌ فاقدٌ للدهشة، مزوَّدٌ فقط بمكبرات صوت أكبر من المعنى.

ليست الأزمة أن تأتي بأسماء لامعة كأنك في سوق شعبي تجمّع نجوم الكاسيت، بل الكارثة الحقيقية أن تحوّل هذا البريق الاصطناعي إلى بديل عن الجمال الحقيقي. ليست المشكلة في الضجيج الذي يصم الآذان، بل في أن يصبح هذا الصخب غطاءً يُخفي تحتَه فراغاً فنياً قاتلاً. فالفن بلا فكر لا يعدو كونه مهرجاناً للبهلوانيات، والاستعراض بلا ذاكرة هو محْو تام، كأنك تمسحُ تاريخك بممحاة بلاستيكية لا تعرف قيمة الحبر.

عشرينية على المَقَاس: قِسْ تاريخك كما تشاء!

وفي خضم هذا المحو يبدو أن فكرة “عشرينية موازين” ليست إلاَّ احتفالا بنسيان مُتقن، وتغليفا احتفاليا لسُوء تفاهم مع الزّمن. إنها عشرينية بلا طفولة، بلا مراهقة، بلا بدايات، بلا حكايات صغيرة تسكن التفاصيل.
أعيدُوا لنا مَوَازيننا.

ذاك المهرجان الذي كان يربط بين ضفاف المتوسط والسينغال، بين الشّعر والسّامبا، بين الذكرى والرّؤية. أعيدوا لنا مدينة كانت تحلم بمُوسيقى العالم، ولا تكتفي بالتصفيق لأيّ نغمة مرّت.

يا من يعنيه الأمر: لا تكتبوا على الملصقات “مهرجان موازين، عشرون عاماً من الفنّ”، بل اكتبوا الحقيقة كما هي: “مهرجان موازين، خمسُ سَنوات من التّأسيس، وعشرون عاماً من النّسيان المَدْرُوس”.

في غمرة الصخب المنبعث من المنصات، وبين نثرات الضوء المتراقصة على أجساد الراقصين بلا ذاكرة، رفعتْ هذه الدورة الجديدة من مهرجان “موازين” شعار “عشرون سنة من الإيقاعات!”، وكأن التاريخ قد خُطَّ بقلم فليوماستر سريع الزوال. عذرًا، سادتي، فقد أُسّس هذا المهرجان سنة 2001، لا في 2005 كما تودّون أن تصدّقوا، أو أن تُقنعوا به جمهورًا لا يليق به هذا النوع من البَتْر الرَّمزي. فهل نسيتُم، أم تعمَّدتم، أن هناك مرحلة تأسيس كانت تنبضُ بالجدّ، وتفكّر في الإيقاع باعتباره مجالا حيويا للعبور الثقافي والحوار الحضاري.

كان مهرجان “موازين ” في بداياته حالة استثنائية، ومشروعًا ثقافيًا يحمل في قلبه طموحَ الرّباط لتصبح منصة لإيقاعات العَالم. فكيفَ نُفسّر هذا القفز الأكْرُوباتي على السّنوات الخمس الأولى من عُمر المهرجان؟ هل هو مُجرد خطأ حسابي، أم أن الذّاكرة باتت عبئًا يجب التّخلص منه ليستقيم السرد الجديد للهوية المهرجانية؟

لا أحد يتذكّر، لكن الجميع يرقُص!

اليوم، غابت إفريقيا. هل يُعقل أن تُنسى القارة التي أنجبت الإيقاع؟ وأين أمريكا اللاتينية التي كانت ترسل إلينا أصواتها كما لو كانت رسائل حب موسيقية من الأرجنتين وكولومبيا والبرازيل؟ ما هذا التقلّص الجغرافي في مهرجان كان يفخر، ذات زمن، بشموليته الكونية؟

أما المثقفون، أولئك الذين كانوا يرفدون المهرجان بعمقٍ كأنهم يسكبون الحكمة في فناجين الضوء، فقد أُزيحوا كما يُمحى الضمير في نص إعلاني يركض خلف موعد البثّ. لم نعد نرى الشاعر الذي كان ينصتُ إلى القصيدة قبل أن يكتبها، ولا الناقد الذي كان يقيس المعنى بالميزان لا بالمزاج، ولا حتى الصّحفي الثقافي الذي كان يكتب وكأن مقالته بيان للضمير، وليس منشورَ إعجاب عابر في منصّة دعائية.

ما نشهده اليوم في المهرجان العشريني انقلاب ناعمٌ على المعنى: من مهرجان موسيقى العالم وحوار الحضارات إلى رطانة الترفيه.

كان يمكن لهذه الدورة أن تحتفل بمرور 25 عامًا من الجُرأة والتّجريب والتّنوع، لكنها آثرت أن تمحو خمس سنوات كاملة من ذاكرتها. كانت سنوات “موازين” الأولى لا تحتاج إلى مؤثرات خاصة لتُبهر، يكفي أنها كانت تؤمن بأن الفن فكرة قبل أن يكون حفلة. لم تكن المنصات تعانق السماء، لكنها كانت تلامس قلوباً تُحسن الإصغاء. هل يخاف مهرجان “موازين” من صورته الأولى، أم يخشى أن تفضح المقارنة بين الأمس واليوم ما لا يريد الاعتراف به؟

كان المهرجان في بدايته يُنتجُ ويصنعُ حدثًا، ويُؤسس لذائقة. أما اليوم فقد بات زينة ظرفية، تقاس قيمته بعدد المبيعات وحجم الحراسة الخاصة. اختفى الإيقاع بوصفه تعبيرًا ثقافيًا، وصار مجرد خلفية موسيقية لحفل إعلان تجاري طويل.

للذَّاكرة حقُّ الرَّدّ

ليس في كلامي دعوة لأن يعود مهرجان “موازين” إلى الوراء كمن يرتدي بزَّتهُ المدرسية في منتصف العمر، وإنما هو دعوة لأن ينظر في المرآة دون أن يتجمّل. لا نريده متحفاً لصور الحنين، بل ساحة نقدية تجرؤ على مساءلة نفسها قبل أن تحتفل بذاتها.

ما نطالب به بسيطٌ جداً: أن يكفّ عن التصرف كأنه وُلد من العَدَم، وكأن الذّاكرة إكسسوار ثقيل لا يلائم أزياء المَوْسم. فما الجدوى من مهرجان يُنكر ذاكرته؟ ما معنى الاحتفال حين يُقصي من صنعوا بدايته؟ ما فائدة إيقاعات بلا جذور؟

أما من قرّر أن يُخفي شهادة ميلاد مهرجان” موازين” خلف غلافٍ أنيق لكتاب “جميل” صدر سنة 2005، فقد ظنّ- ببراعة مدهشة- أن التصميم الغرافيكي قد ينجح حيث فشلت الذاكرة، وأن الحبر الذهبي على الورق اللاّمع أقدر على إعادة كتابة التاريخ ممَّنْ حضروا التأسيس ورفعوا أولى الخيام، وأن الصَّفحات المتقنة تُلغي الوقائع، وأن الإخراج الفني قادر على طيّ خمس سنوات من البدايات كما تُطوى صفحة مُحرجة من سيرة قديمة. لكنه نَسيَ، أو تناسى، أن الجمال لا يُزوِّرُ، وأن الكتب- مهما كانت أنيقة- لا تصلحُ للسَّطو، خصوصًا حين يُطبع النسيانُ بألوان فاخرة ويُروَّج له على أنه “حقيقة مطبوعة”.

الذاكرة هي النغمة الحقيقية التي تُمكّن الموسيقى من النبض، والاحتفال من الاحتفاء. ومهرجان بلا ذاكرة هو مهرجان بلا روح، بلا قصة، بلا جمهور حقيقي… إنه مشهد كوميدي تراجيدي من النوع الذي يُضحك بقدر ما يُحرج: بداية تُنسى عن سبق إصرار، وبداية جديدة تُعلن تحت الأضواء كأن الذاكرة تفصيل زائد في سيناريو دعائي. أيُّ فنٍ هذا الذي يُبنى على النسيان بدل الوفاء؟ أهو احتفال، أم مجرد سرقة موثقة للتاريخ بعدسة كاميرا عالية الدقة؟

في زمنٍ تتآكل فيه المعاني خلف واجهات البلاغة الاستهلاكية، يبرز مؤسّسو مهرجان “موازين – إيقاعات العالم” بوصفهم من القلائل الذين آمنوا بأن الفرح فعلٌ ثقافي بامتياز، وليس مجرد استراحة من الهمّ. لقد وضعوا نصب أعينهم منذ البداية أن الإيقاع لغة كونية، وأن الموسيقى، حين تُنظم بروح المسؤولية والجمال، تتحول إلى حوار حضاري حيّ. لم يكن مشروع المؤسسين احتفالًا عابرًا، كان بالمقابل رؤية فنية لما يجب أن يكون عليه الفرح حين يُحرر من الابتذال، ويُصاغ بوصفه فعلاً مدنيًّا راقيًا. ما زالوا بيننا، يذكروننا بمرحلة التأسيس، ويواصلون، بصمت وهدوء، إشعال الدهشة فينا، ويهمسون: الفرح ليس ترفًا… إنه ثقافة.

أسّسُوا مهرجان “موازين – إيقاعات العالم” يوم كان الحلم بالموسيقى مغامرة، والإيمان بقدرة الفنون على خلق معنى جماعي ضربًا من المثالية. لم يكونوا هواةَ بهرجة، وإنما معماريين حقيقيين للدهشة، عرفوا أن الإيقاع يمكن أن يكون جسرًا بين العالم والإنسان، بين الإيقاع والكرامة. واليوم، وقد غابَ ذكرُهم، أو أُقصوا بصمتٍ من مشهدٍ صنعُوه، يبدو نسيانُهم وكأنه نُكران للنبع الأول. فبينما تتسابق الأضواء لتتتبع نجوم الحفلات، تُطفأ الأضواء الحقيقية عمَّنْ منحُونا القدرة على أن نحلم بإيقاع مختلف. إن تَنَاسيهم لا يُنقصُ من أثرهم، بل يزيده حضورًا في الضمير الثقافي، لأن من يزرع الفرح الصّادق لا يحتاج إلى بطاقة دعوة ليتذكّره الناس، يكفي أن يبدأ العزف… ليُذكر اسمه بينهم.

نحبّ الفن، نعم، لكن الفن الذي له ذاكرة، لا ذاك الذي يستيقظ كل سنة وهو مصاب بفقدان تام للهوية. لذلك لا نطلب من “موازين” أن يعتذر للتاريخ، بل أن يتذكّر أنه وُلد؛ أن يفهمَ أن الفن ليس مؤتمراً صحفياً طويلَ الأمد، ولا منصّة لبيع الذوق بالتقسيط، بل ذاكرة تمشي على قدمين.

والسلامُ على من يعرف أن الموازين هي طريقة في حب الفن… والحياة.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق مسلسل ليلى الحلقة 36 مترجمة كاملة
التالى البنك المركزي المصري ومؤسسة "حياة كريمة" يوقعان ...