مع دخول السنة الهجرية الجديدة 1447، تتجدّد في وجدان المسلمين تلك الوقفة السنوية بين يدي الزمن؛ لحظة يختلط فيها التأمل بالحساب، والرجاء بالأسى، وتنبعث فيها الأسئلة الكبرى من رماد الذاكرة. غير أن اللافت في كل ذلك، أن كثيرًا من الخطاب السائد يميل إلى جلد الذات، وكأننا أمة لا ترى من نفسها إلا العجز، ولا تتذكر من تاريخها إلا الهزائم، ولا تبصر من حاضرها إلا العتمة. فهل بات قدر المسلمين أن يطيلوا الوقوف على أطلالهم، ويجترّوا خيباتهم، ويتجاهلوا كل ما تحمل تفاصيله من إشارات نهوض وجذور أمل؟
في غزة اليوم، التي تستقبل العام الهجري تحت القصف والحصار والتجويع، يتجلى المعنى الأعمق لهذه المفارقة. شعب أعزل، محاصر، مهدد بالفناء، لكنه لا يزال يقاتل من أجل كرامته، يدفن شهداءه ويرفع رأسه، يصمد لأن الإيمان يسكنه، لا لأن السلاح يحميه. في كل بيت يُهدم، تولد عزيمة. في كل طفل يُقتل، يولد وعي. وما يحدث في غزة ليس فقط مأساتنا المتجددة، بل مرآتنا التي تذكّرنا بأن الأمة لم تمت، وأن القوة ليست دومًا في السلاح، بل في المعنى، وفي الروح، وفي الإيمان بالحق.
قال رسول الله ﷺ: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير…”. وبينما يُمعن العدو في التدمير، يتشبث الشعب الفلسطيني بمعنى البقاء، ويحوّل الهزيمة إلى مدرسة للصبر، والدمار إلى شاهد على الثبات.
لكننا – نحن أبناء هذه الأمة – كثيرًا ما ننظر إلى أنفسنا بعين الآخر، نحاكم إنجازاتنا من زاوية تصفيقه أو رفضه، ونقيس تقدمنا بميزانه. تعلمنا أن نُكثر من النقد ونقلل من رواية الأمل، أن نُضخّم الهزيمة ونهمّش البناء، أن نستحضر الأخطاء ونغفل الإمكانات. وقد آن الأوان لنعيد التفكير في هذا المزاج الثقافي الذي يختزل أمتنا في صورة مغلقة من الانكسار. لا نحتاج إلى مزيد من جلد الذات، بل إلى مشروع جاد لبناء الذات: وعيًا، ومؤسسات، وثقة بالنفس، واستثمارًا في المستقبل.
قال الله تعالى: “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلَون إن كنتم مؤمنين” (آل عمران: 139). آية لا تمنح تعزية عاطفية، بل تعيد ترتيب الإحساس بالزمن والتاريخ. فالهزائم ليست نهاية الطريق، والانكسارات لا تصنع مصائر، بل لحظات مراجعة داخل مسار أطول. والنبي صلى الله عليه وسلم، حين خرج من مكة مهاجرًا، لم يكن يملك من الدنيا شيئًا، لكنه كان يحمل النور في قلبه، واليقين في صدره، فعاد بعد سنوات فاتحًا. ذلك هو منطق السنن، ومنطق التاريخ حين يسير بمنطق الإيمان، لا بمنطق الهزيمة النفسية.
وفي زمن اليأس، تظهر مؤشرات النهوض على الأرض. السعودية اليوم، عبر “رؤية 2030″، لا تكتفي بتنويع اقتصادها، بل تعيد تشكيل نمط التنمية ذاته، من اقتصاد ريعي تقليدي إلى اقتصاد إنتاجي تنافسي قائم على الابتكار والمعرفة. تجاوز الناتج المحلي الإجمالي عتبة 1.1 تريليون دولار، وتضاعفت إيرادات السياحة خلال عامين، مع مشاريع عملاقة في الطاقة النظيفة والهيدروجين، وتحول تدريجي نحو التحول الرقمي والحوكمة الفعالة.
الإمارات ترسّخ موقعها مركزًا عالميًا في الفضاء والتقنية والتمويل. أرسلت “مسبار الأمل” إلى المريخ، وأسّست وكالة فضاء نشطة، وتحوّلت دبي إلى واحدة من أكثر المدن تنافسية في العالم، في وقتٍ تُواصل فيه أبو ظبي الاستثمار في الطاقة المتجددة والمستقبل الذكي.
قطر عمّقت نفوذها الطاقي والدبلوماسي، ورسّخت نموذجها في التنمية المتوازنة بين البنية التحتية والبعد الثقافي، بينما أصبح المغرب اليوم بوابة صناعية في إفريقيا، متقدمًا في السيارات والطيران والطاقة الشمسية، وموسّعًا حضوره الجيو-سياسي عبر مشاريع موانئ وطاقة ورؤى اقتصادية نحو عمقه الإفريقي.
لكن ما هو لافت حقًا هو ما تورده تقارير اقتصادية دولية عن دول كبرى في العالم الإسلامي يُتوقّع لها أن تدخل في العقود القليلة المقبلة نادي الاقتصادات العشرة أو العشرين الأقوى عالميًا. فبحسب تقارير من “PwC” و”HSBC”، من المرجّح أن تحتل إندونيسيا المركز الرابع عالميًا بحلول 2040 من حيث القوة الشرائية، مستفيدة من استقرار مالي وسوق داخلية ضخمة. كما يُتوقع أن تُحرز تركيا تقدمًا حاسمًا في حال استقرار سياساتها النقدية والتجارية، وهي اليوم من أسرع الدول نموًا في الصناعات الدفاعية. ماليزيا تواصل صعودها في مؤشرات التعليم والابتكار، وباكستان مرشحة للعب دور إقليمي أوسع إذا ما تمكّنت من تجاوز تحدياتها البنيوية.
أما مصر، فكل المؤشرات الاقتصادية تشير إلى إمكانات صعود حقيقية؛ إذ تملك أكبر سوق سكانية عربية، وتستثمر بفعالية في البنية التحتية والموانئ والطاقة والرقمنة. وإذا ما تم ضبط الدين، وتعزيز بيئة الاستثمار، فإن الخبراء يتوقعون دخول مصر بحلول منتصف هذا القرن بين أكبر 20 اقتصادًا عالميًا، وهو ما يُعد تحوّلًا استراتيجيًا في ميزان القوة الاقتصادية في المنطقة.
وليس بعيدًا عن ذلك، فإن الماضي القريب يشهد على قدرة هذه الأمة على الإبداع العلمي، رغم التحديات. فقد أنجبت الأمة خلال القرن الماضي والعقود الأخيرة علماء سطعوا في ميادين الكيمياء والفيزياء والطب والفضاء والرياضيات، وتركوا بصمات عميقة في المعرفة العالمية.
من مايكل عطية رائد الرياضيات، ومنير نايفة عالم الذرة والنانو، ومحمد النشائي صاحب نظرية المقطع الذهبي، وفاروق الباز رائد استكشاف سطح القمر، إلى مصطفى السيد عالم النانو، ومجدي يعقوب أسطورة جراحة القلب، ورشيد اليزمي رائد أبحاث بطاريات الليثيوم، وإلياس الزرهوني ومها عاشور وشادية حبال وشارل العشي، وغيرهم كثير ممن رفدوا الإنسانية بعلم راسخ.
وليس بعيدًا عنهم، فقد نال عدد من العلماء المسلمين جائزة نوبل في ميادين علمية رفيعة. أبرزهم محمد عبد السلام، الفيزيائي الباكستاني الذي نال نوبل في الفيزياء عام 1979 عن مساهماته في توحيد القوى الكهرومغناطيسية والضعيفة في الذرة. كما فاز بها المصري أحمد زويل عام 1999 في الكيمياء، لابتكاراته الرائدة في مجال كيمياء الفيمتو. وفي عام 2015، حاز العالم الأميركي من أصول تونسية منجي الباوندي جائزة نوبل في الكيمياء عن تطويره تقنيات النقاط الكمومية، كما فاز الطبيب التركي الأميركي عزيز سنجار بجائزة نوبل في الكيمياء عن أبحاثه في آليات إصلاح الحمض النووي.
قال رسول الله ﷺ: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها”. هذا هو جوهر الروح الإسلامية: غرس الأمل حتى في ظلال النهاية.
نعم، لدينا أزمات وخيبات واستبداد وفساد، لكننا نملك أيضًا من مقومات النهوض ما يجعلنا أهلًا للتاريخ، لا هامشه. والتاريخ لا يصنعه من يقف على الرصيف، بل من يمشي وسط التحديات ولا يتوقف.
وعلى امتداد 1447 عامًا من الهجرة، لم نكن دائمًا في القمة، لكننا لم نغادر يومًا ساحة التأثير.
ولعل أعظم ما يمكن أن نبدأ به هذا العام، هو أن نتوقف عن جلد الذات، ونستبدله بمشروع حقيقي لبناء الذات. لا نبدأ من الصفر، بل من حيث سقطنا آخر مرة. فالأمة، حين تنهض، لا تنتظر أحدًا، ولا تستأذن أحدًا، لأنها تؤمن بأن الله قال:
“إن يعلمِ اللهُ في قلوبكم خيرًا يؤتِكم خيرًا” (الأنفال: 70).
كل عام هجري وأنتم بخير،
وغزة بخير،
وفلسطين أقرب،
والأمة تمضي… لا تموت.