تنبيه هام: ليست الغاية من هذا المقال توفير دعاية مجانية للسياحة بأحد بلدان الجوار. الأمر لا يعدو أن يكون تعبيرًا ذاتيًا عن انطباعات شخصية، ما فتئت تتراكم مذ بدأ اهتمامي وشغفي بطواف فرنسا للدراجات.
بعد أيام معدودة من الآن، وعلى امتداد عشرين يومًا ونيف، سأجدد عقد الوفاء الذي يربطني بواحدة من أقرب الرياضات إلى قلبي، وسأجدني مرة أخرى – بمقتضى أحد بنود العقد – منخرطًا في جولة مجانية ستقودني إلى العديد من ربوع أول قبلة سياحية في العالم، بدون منازع.
لن تكون الرحلة ملموسة بجسدي ومجموع حواسي. سأكتفي فقط بالتسمر أمام تلفازي بمعدل ساعتين في اليوم على الأقل، وانطلاقًا من أريكتي، سأستنشق من جديد عبق التاريخ، وسأكتشف عجائب الجغرافيا، وسأقطع المسافات، وأعبر الجسور، وأخترق السهول والهضاب، وأصعد الربوات والتلال والجبال، وأدخل القرى والبلدات والأمصار دخول الفاتحين، جنبًا إلى جنب مع أبطال الدراجة العالميين. بعبارة أخرى، لن أكون في حاجة إلى انتظار دوري للحصول على تأشيرة دخول التراب الفرنسي، ولن أجد نفسي مضطرًا للإجهاز على مدخراتي وميزانيتي لبلوغ هذا الهدف؛ مادام أسلوبي هذا في ممارسة السياحة يفي أحيانًا بالغرض وزيادة.
ليس من الضروري إذن امتلاك ثروة بحجم ثروة إيلون ماسك للاستمتاع بالكثير من الأشياء الجميلة في هذه الحياة، وليس من الضروري أيضًا التوفر على نفس صلاحيات وامتيازات جياني إنفانتينو لولوج عوالم وفضاءات في غاية الإثارة والروعة… ولو افتراضيًا على الأقل!
مرة أخرى، سيكون لي ولعموم المتابعين موعد مع الماء والخضرة والوجه الحسن. سنرى الأشجار الباسقة والوارفة، والأنهار بنوعيها البطيء والسريع، والبحيرات الهادئة، والشلالات الهادرة، وجداول المياه الرقراقة وهي تخترق المروج، والنسور المفترسة وهي جاثمة على قمم الجبال أو سابحة في سماء حقول الكروم والكرز والتفاح والقمح والذرة وعباد الشمس والفراولة، وسنرى… وسنرى… وكل هذا بحضور معلقين رياضيين، لن يترددوا في التحول من وقت لآخر إلى مرشدين سياحيين؛ لتزويد المشاهد بالتفاصيل التاريخية والجغرافية المرتبطة بالمواقع التي سيمر عبرها الطواف.
مرة أخرى، سيتأكد لي أن طواف فرنسا للدراجات – الذي سرت بذكره الركبان منذ أزيد من قرن من الزمن، والذي لم يتوقف إلا في زمن الحرب – مدرسة قائمة الذات في مجال اللوجستيك. لا شيء متروك للصدفة. كل شيء خاضع للحسابات؛ بدءًا بتحديد المسار (الذي يتغير سنويًا)، وانتهاءً بوضع ترتيبات حفل التتويج النهائي، مرورًا بتحديد الإجراءات الأمنية والإدارية، وضمان خطوط الإمدادات الميكانيكية والغذائية والتطبيبية، إضافةً طبعًا إلى وضع تصوّر مضبوط لصيغة التغطية الإعلامية. حتى دراسة حدود قدرات المتسابقين من أولويات التخطيط (هناك – ضمن إجراءات أخرى – حث على الارتواء من وقت لآخر في الأجواء الحارة بواسطة مكبرات الصوت!).
مرة أخرى، سأقف مشدوهًا أمام احترافية الإخراج التلفزيوني، وصفاء البث، ودقة التنسيق بين مختلف التقنيين والإعلاميين، وروعة التصوير المحفوف بالمخاطر، والمنجز انطلاقًا من مجموعة من الدراجات النارية والسيارات والمروحيات والطائرات الصغيرة المسيرة، التي أضاف إقحامها في عملية التقاط المشاهد الكثير إلى جمالية الطواف. حتى ضبط المعطيات وتحيينها مضمونان بدرجة كبيرة، بحيث أن كل الأرقام وكل التفاصيل التقنية والإخبارية المرتبطة بكل مرحلة تظهر على الشاشة بالدقة اللازمة ودون تأخير.
مرة أخرى، سيصطف عشاق الطواف بمحاذاة سياراتهم أو جراراتهم الفلاحية أو بيوتهم المجرورة على جانبي الطريق، مرفوقين بأطفالهم وكلابهم، ومحتمين بمظلاتهم، وملتفين حول موائدهم العامرة، وكلهم يتطلعون إلى التملي بطلعة الدراجين، والترحيب بهم بشتى الطرق التقليدية منها والمبتكرة، وحثهم بالتصفيق والهتاف على مواصلة الرحلة. الحضور التلقائي للجماهير – الممثلة لمختلف المستويات العمرية – على طول المسار مضمون دائمًا. بل من ضمن الفضوليين المشجعين، هناك من لا يفقه شيئًا في هذه الرياضة الشعبية، وليست له حتى القدرة على التمييز بين دلالات القميص الأصفر والقميص الأخضر والقميص المنقط.
مرة أخرى، سنقرأ في عيون المتفرجين حب الوطن والرغبة في التعايش وفي الاستمتاع بكل ما هو جميل، وسنرى أيضًا صورة راقية لمستوى التربية المدنية. الناس منضبطون من تلقاء أنفسهم، ما يفسر التواجد المحدود لقوى الأمن وغياب الحواجز الحديدية، وخاصة خارج المدارات الحضرية.
مرة أخرى، سنلمس التجسيد الحقيقي للصحافة الرياضية المتخصصة، من خلال المتابعة الدقيقة لأداء المتسابقين، والتذكير بتاريخ الطواف، ومختلف المسارات التي سلكه، وأسماء المتوجين السابقين – والذين منهم من لا يتردد أبدًا في قبول دعوة الواصفين والمعلقين والمحللين الرياضيين للانضمام إليهم – بغية إثراء الوصف الاحترافي للحدث، أو لتعميق التحليلات الرصينة التي تعقب كل مرحلة.
مرة أخرى، سنشهد هدوء البداية وأناقتها، قبل أن تستعر المنافسة ويصل احتدامها إلى درجة اصطدام الدراجين ببعضهم البعض، وسنضع أيدينا على قلوبنا بمواقع بعينها، وخاصة بالمنحدرات الخطيرة، حيث بإمكان السرعة أن تلامس 90 كلم في الساعة!
مرة أخرى، سيحتدم الصراع بين الشركات بعد طي صفحة التنافس بأسماء الدول المشاركة، ليتأكد للجميع بأن المال سيظل دائمًا عصب الحياة، حتى في الرياضة. الدراجون اليوم – وعلى الرغم من الذكر المتكرر لجنسياتهم – هم مرتبطون في الطواف بمقاولات ومؤسسات اقتصادية كبرى لاعتبارات مادية صرفة، وليس بكيانات وطنية لا تجمعهم بها سوى اعتبارات رمزية وقومية. انتهى – على ما يبدو – زمن التعرق دفاعًا عن ألوان راية الوطن في صفوف فئات بعينها من الرياضيين المحترفين.
مرة أخرى، سيتضح جليًا أن طواف فرنسا للدراجات حدث رياضي بامتدادات سياحية واقتصادية، وهو أيضًا – وبلا أدنى شك – حدث حضاري، وملخص مركز للعبقرية الفرنسية، وخاصة في بعديها العمراني والمعماري، ومرآة عاكسة لغنى البلاد وتنوع مؤهلاتها الطبيعية والبشرية والثقافية، حتى أضحت هذه المناسبة حدثًا عالميًا ينتظره الجميع، بل و”ماركة مسجلة” نجحت فرنسا في تصديرها منذ البدايات. لا داعي للتعجب إذن عندما نرى دولًا متقدمة من قبيل إيطاليا وإسبانيا وسويسرا، وأخرى أقل تقدمًا من قبيل كولومبيا ورواندا وبوركينا فاسو وتركيا، قد دأبت على تنظيم طوافات خاصة بها على الطريقة الفرنسية؛ مادام جني المكاسب المنتظرة مضمونًا إلى حد بعيد.
مرة أخرى، سيخيل لنا أحيانًا بأننا بصدد متابعة وثائقي من وثائقيات “ناشيونال جيوغرافيك” أو “الجزيرة الوثائقية”، وليس بصدد متابعة مرحلة من مراحل سباق خاص بالدراجات، وذلك من فرط تركيز المخرج ومعاونيه على إبراز جمالية الريف الفرنسي، مع تسليطهم الضوء على مناطق منتقاة: بطرقها الإقليمية والثانوية، وقلاعها، وأسوارها، وقصورها، وجسورها، ومصبات وديانها، وكاتدرائياتها، وكنائسها، وأديرتها، ومنتزهاتها، وأبقارها، وخرفانها، وعشبها الدائم الاخضرار… وطبعًا، لن تمر كل هذه المشاهد من أمامي دون أن تعود بي الذاكرة إلى عنزة السيد سوغان وطيشها المميت!!
مرة أخرى، لن يأبه أبطال الدراجة ومرافقوهم على طول الطريق لا بالشمس الحارقة ولا بالزخات المطرية المفاجئة ولا بتوالي البرق والرعد، وسيواصلون اختراقاتهم وفتوحاتهم، ولن تصدر أوامر بوقف السباق إلا لأسباب قاهرة.
مرة أخرى، سنرى “مناضلين” بحظ عاثر يسقطون بعد ثلاث ساعات تقريبًا من الصمود، وعلى بعد أمتار قليلة من خط الوصول، وذلك بعد تسيدهم للمرحلة منذ انطلاقها، وسنرفع القبعة لكل المتسابقين بدون استثناء، مهما كانت رتبة كل واحد منهم؛ فمجرد استكمال السباق على عجلتين إنجاز رائع في حد ذاته.
مرة أخرى، سيذكرنا أبطال الدراجة بأن نيل المطالب لا يكون بالتمني، وإنما تؤخذ الدنيا غلابًا.
مرة أخرى، سنقف مبهورين أمام المدى الذي يمكن أن يبلغه مستوى أداء جسم الإنسان بفضل التدريب المنتظم والتنافس المعقلن (هناك – من غير الدراجين المحترفين – من ليس بوسعه قطع المسافة الإجمالية السنوية للطواف داخل نفس الفترة، حتى على متن سيارة!!!!).
مرة أخرى، سنرى كيف أفلح العقل البشري في تحويل اختراع بسيط (أقصد الدراجة الهوائية طبعًا) من مجرد أداة للتنقل الشخصي أو لممارسة الرياضة، إلى وسيلة لخلق دينامية اقتصادية، وتحقيق الإشعاع الحضاري، ونشر المعرفة على نطاق واسع أيضًا.
مرة أخرى، لن أتعاطف بالضرورة مع درّاج بعينه؛ مادام أن فوز هذا البطل أو ذاك لن يزيد أو ينقص من درجة الاستمتاع بالحدث، ومادام السباق مجرد جزء من اللوحة العامة. وهذا ما نلمسه أيضًا في تظاهرات أخرى من قبيل منافسات الفروسية وسباق السيارات والزوارق الشراعية؛ حيث تمتزج الرياضة بالسياحة والاستجمام والثقافة وأشياء أخرى.
مرة أخرى، سنلمس وجود العديد من المؤشرات التي تؤكد مباركة أعلى سلطة بالبلاد لهذا الحدث الرياضي البارز، واستعدادها الدائم لضمان استدامته.
ومرة أخرى، لن نرى ولا عربيًا ولا إفريقيًا واحدًا ضمن الرياضيين المتنافسين؛ ليس بسبب تبني معايير تمييزية قائمة على أساس العرق أو اللون أو الدين بكل تأكيد، بل فقط لكون السير الذاتية والمعطيات المتوفرة لا تؤهل المتواضعين والمتوسطين للمنافسة إلى جانب الكبار.