صدرت، حديثا، عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء الترجمة العربية لكتاب “الشعار في السياسة والإشهار والإيديولوجيا” للبلاغي الفرنسي أوليفيي روبول، بنقل متميز إلى العربية أنجزه الباحث والمفكر والمترجم المغربي سعيد بنكراد. ويُعد الكتاب مساهمة فكرية حيوية في تحليل واحد من أكثر المفاهيم شيوعا وغموضا في آنٍ واحد، وهو “الشعار”، بما له من حضور طاغٍ في مجالات السياسة والدعاية والإعلام والاستهلاك، بل وفي التربية أيضا، كما يشير المؤلف.
في تعريفه الأولي، يتناول الكتاب الشعار باعتباره “صرخة الحشود” كما في أصله الويلزي، ثم يتتبع تطوره إلى أن أصبح أداة فعالة في الترويج للسلع والأفكار والمواقف؛ غير أن المؤلف لا يكتفي بتشريح ما يقوله الشعار، بل يذهب أبعد من ذلك ليحلل ما لا يقوله، أو ما يتعمد إخفاءه خلف جاذبيته اللغوية. فشعار مثل “الإسلام هو الحل” لا يعني ببساطة الدعوة إلى الإسلام؛ بل يؤكد – باستخدام أداة التعريف – أن لا حل غيره، وبالتالي يقصي بقية الخيارات من الأساس.
في مقدمة الترجمة، يصف سعيد بنكراد الشعار بأنه صيغة لغوية محكمة التأثير، تتجاوز الإخبار أو التبليغ لتتحول إلى وسيلة تحريض وحشد وتحفيز على الفعل. الشعار، حسب بنكراد، لا يُبنى على المنطق بل على الانفعال، ولا يُؤسس على الحجة بل على جمالية اللغة، وإيقاعها، وقدرتها على التكرار والانتشار. وهو بهذا المعنى “صيغة من صيغ الفكر الجاهز”، تختصر التعقيد في عبارات بسيطة توحي باليقين وتستميل العاطفة، متجاوزة كل تردد أو تفكير نقدي.
ويتتبع الكتاب جذور الكلمة؛ من أصلها الويلزي sluagh-ghairm التي تعني “نداء الحشود إلى الحرب” إلى معانيها الحديثة المرتبطة بالتسويق السياسي والاستهلاكي. ويعرض المؤلف أمثلة بليغة؛ مثل عبارة “هنا يبدأ بلد الحرية” التي كانت تُكتب على حدود فرنسا، والتي تبدو دعوة للانتماء إلى قيم الحرية، لكنها – ضمنا – تقصي بقية البلدان وتصورها كمجتمعات غير حرة، في تلخيص مانوي للعالم بين “نحن” و”هم”.
ولا يقف التحليل عند الحدود السياسية، بل يتوسع إلى ميدان الاستهلاك، حيث يُبرز المؤلف كيف أن الشعار لا يروّج فقط لمنتج معين؛ بل “يخلق الحاجة إليه” من خلال ربطه بقيم رمزية مثل الفخامة أو المكانة الاجتماعية. وهنا يستشهد بشعار “بيريي، شامبانيا مياه المائدة”، الذي يحوّل الماء المعدني إلى رمز للترف، في عملية إقناع ناعمة تُمكّن الخطاب الشعاري من اختراق الوعي اليومي للمستهلك.
وعلى الرغم من التحذير من قوة الشعار في التضليل والإغراء، فإن الكتاب لا ينكر أن بعض الشعارات كانت حاملة لطموحات إنسانية نبيلة؛ كما في شعار “يا عمال العالم اتحدوا”، أو “ممنوع المنع” خلال انتفاضة طلبة فرنسا في 1968، والتي كانت تعبيرا عن رفض الإقصاء والدعوة لبناء مجتمع منفتح وحالم. ومع ذلك، يخلص روبول إلى أن الشعار – في أغلب الحالات – لا يعرض “الحقيقة”، بل يعرض “حقيقة جزئية” ويُقصي البقية، ما يجعله أداة ذات وجهين: قادرة على التحفيز والتغيير، لكنها أيضا قابلة للاستعمال الإيديولوجي المغرض.
إن ما يجعل هذا الكتاب مميزا هو قدرته على الربط بين الشعار كأداة بلاغية وبين أنماط تفكير شائعة في المجتمع الحديث، حيث يصبح الشعار أداة للحكم، معيارا للتصنيف، بل وحتى بديلا للتفكير. “الناس لا تفكر بالشعارات، بل تفكر من خلالها”، يقول روبول؛ وهو ما يمنح الشعار قوة غير مرئية في تشكيل الرأي والسلوك الجماعي.
في النهاية، يقدم هذا الكتاب مرآة نقدية لمجتمع يعيش بالشعارات، ويعيد النظر في القوة الرمزية التي تملكها الكلمات القصيرة المؤثرة في صياغة واقعنا المعاصر. إنه دعوة إلى أن نفكر في الشعار، لا أن نستسلم له.