لم تنتهِ الحرب بين إيران وإسرائيل على قاعدة “غالب ومغلوب”، بل توقفت فجأة على وقع تدوينة فجّرت أسئلة أكثر مما قدمت من أجوبة. ففي خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من خارج كل السياقات الدبلوماسية المعتادة، وقفًا “تامًا” لإطلاق النار.
لا خرائط طريق، ولا ضمانات، ولا تنسيق مؤسسي مسبق. بدا العالم وكأنه يلتقط أنفاسه مؤقتًا، لكن سرعان ما تبيّن أن ما أُعلن لم يكن سلامًا، بل هدنة على شفا الانهيار. إعلان أربك حتى كبار مسؤولي الإدارة الأميركية، وأطلق موجات جديدة من التساؤلات بدل أن يُطفئ نيران التصعيد.
خلف الكلمات، كانت وساطة قطرية تتقدّم، وتوترات تتصاعد، وصمت يخيّم لا بوصفه نهاية، بل استراحة بين جولات لم تُحسم.
اللافت أن الإعلان الأميركي عن الهدنة لم يأتِ بعد اجتماع أمني موسع، بل أعقب اتصالات عاجلة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومسؤولين إيرانيين، ووساطة قطرية مباشرة قادها الأمير تميم بن حمد آل ثاني.
بهذا المعنى، وُلد وقف إطلاق النار من دينامية براغماتية سريعة، لا من عملية سياسية ناضجة. وما منحه طابعًا استثنائيًا ليس فقط توقيته، بل طبيعة الأطراف المنخرطة وسرعة اتخاذ القرار.
لكن الهدنة، ما إن أُعلنت، حتى بدت مهددة بالانهيار. تبادلت طهران وتل أبيب الاتهامات بخرقها خلال ساعاتها الأولى. إسرائيل اتهمت إيران بمواصلة إطلاق الصواريخ، فيما نفت طهران، مؤكدة أن إسرائيل هي من بادرت بالتصعيد.
من جهته، كتب ترامب على منصته “تروث سوشيال”: “جميع الطائرات ستعود أدراجها، وستلوّح لإيران بشكل ودي. لن يُصاب أحد بأذى، فوقف إطلاق النار سارٍ!”. في المقابل، أكد الحرس الثوري الإيراني أنه أطلق وابلًا من الصواريخ قبيل بدء سريان الهدنة، مضيفًا أنه “سيواصل رصد العدو بعين مفتوحة ويقظة”.
هذا “الهدوء القلق” فعّل استنفارًا داخليًا في واشنطن. رفعت وزارة الأمن الداخلي مستوى التأهب تحسبًا لهجمات سيبرانية أو أعمال انتقامية، وأعادت أجهزة الاستخبارات الفيدرالية توزيع مواردها لمراقبة التهديدات الإيرانية المحتملة، بما في ذلك داخل الأراضي الأميركية.
وهكذا، جاء “السلام” السياسي متزامنًا مع توتر أمني متصاعد، في تناقض يُجسد هشاشة المعادلة الأمنية والسياسية معًا.
في هذا السياق، نشر وزير الخارجية الأميركي السابق، أنتوني بلينكن، مقالًا في “نيويورك تايمز” قبل يومين من إعلان الهدنة، وصف فيه الضربة الأميركية بأنها “خطأ استراتيجي جسيم”، محذرًا من أنها قد تُسرّع اندفاعة إيران نحو التسلح النووي بدلًا من ردعها. ومع ذلك، اختتم مقاله بجملة لافتة: “آمل أن تنجح”.
هذا التوتر بين التشخيص القلق والتمني المتفائل، يكشف عن مأزق بنيوي في المقاربة الأميركية: قرارات عسكرية متسرعة تتبعها آمال دبلوماسية غير مؤسسة على تسوية واضحة.
على المستوى الإقليمي، بدت طهران وكأنها تخوض المواجهة منفردة. فبالرغم من توقيع اتفاق شراكة استراتيجية مع موسكو مطلع العام، لم تحصد إيران سوى بيانات دعم لفظي. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكد رفضه للهجمات الأميركية والإسرائيلية، معلنًا دعم بلاده للشعب الإيراني، دون تقديم أي التزام عسكري أو أمني.
أما المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، فأوضح لاحقًا أن روسيا “لن تنجر إلى مواجهات غير محسوبة”، في تأكيد على نهج موسكو البراغماتي، القائم على حسابات المصالح لا الانفعالات.
الأكثر دلالة أن قطر، التي أدت دور الوسيط، لم تُخفِ انزعاجها من التصعيد الإيراني بعد استهداف قاعدة “العديد” الأميركية في أراضيها. ففي مؤتمر صحافي، صرّح رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أن “ما حدث من مسّ لسيادة دولة قطر أمر غير مقبول”، مضيفًا أن الدوحة “ستتخذ كل الإجراءات الدبلوماسية والقانونية اللازمة”.
موقف يختصر حجم الحرج الذي سبّبته الضربة الإيرانية للجار والوسيط القطري.
كل ذلك يعيدنا إلى معضلة وقف إطلاق النار الحالي: لا ضمانات، لا مراقبين، ولا توافقات واضحة بشأن مستقبل الردع. مجرد تفاهم هش كُتب تحت ضغط التصعيد، لا على طاولة تسوية مستدامة.
تُذكّرنا الفلسفة السياسية أن السلام لا يعني فقط غياب الحرب، بل وجود منظومة تحول دون تجددها. أما ما نشهده اليوم، فهو هدنة بلا يقين، وسكون هش على شفا انفجار.
وكما كتب الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: “الهدنة لحظة صمت بين خطابين عن الحرب”. لعل هذه الهدنة هي تلك اللحظة، لكن صمتها مثقل بالتهديد، ومداها قصير.
فالأسئلة الكبرى لم تُطرح بعد، فضلًا عن أن تُجاب: هل توقفت إيران عن مشروعها النووي؟ هل تآكلت معادلة الردع الإسرائيلي؟ من يملك اليد العليا الآن؟ وما شروط الجولة التالية إن جاءت؟
هكذا يبدو أن هذه الهدنة، مهما حملت من عناوين، ليست نهاية فصل… بل فاصلة مؤقتة في كتاب مفتوح على كل الاحتمالات.