في واحدة من أعقد المعارك الاستراتيجية غير العسكرية، سجلت مصر نصرا نوعيا جديدا على إسرائيل، لكن هذه المرة لم يكن في ميدان القتال، بل في ساحة الطاقة، وبسلاح الصفقات والذكاء السياسي والاقتصادي للرئيس عبد الفتاح السيسي.
فما بدا وكأنه أزمة خانقة في ملف الغاز، تحولت بفضل رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى فخ أحكمت حلقاته على تل أبيب، لتجد إسرائيل نفسها مضطرة للعودة إلى طاولة التصدير بشروط مصرية خالصة.
انتصار اقتصادي واستراتيجي تحقق بعدما لعبت القاهرة أوراقها ببراعة، وأدارت ملف الطاقة الإقليمي بأعلى درجات الاحترافية، فارضة إرادتها في معادلة الغاز بشرق المتوسط، وراسمة مستقبلا جديدا لأمنها القومي بعيدا عن الابتزاز الإسرائيلي.
احباط الابتزاز الإسرائيلي.. كيف تجاوزت مصر الأزمة؟
استطاعت الدولة المصرية، بقيادة الرئس عبد الفتاح السيسي، أن تتعامل مع أزمة الغاز عام 2025 باعتبارها اختبارا حقيقيا لقوة القرار السياسي، وكفاءة الإدارة الحكومية، وقد نجحت في تحويل التهديد إلى ورقة ضغط في يدها.
فبينما خفضت إسرائيل إمداداتها من حقل "ليفياثان" بنسبة 20% بحجة الصيانة، ووسط تراجع الإنتاج المحلي بنسبة وصلت إلى 30% خلال ثلاث سنوات، ظنت تل أبيب أنها تملك زمام المبادرة.. لكن القيادة المصرية كان لها رأي آخر.
بعيدًا عن ردود الفعل المرتبكة، تحركت القاهرة وفق خطة رباعية محكمة هندسها الرئيس السيسي بنفسه، مستندًا إلى قراءة استراتيجية دقيقة لمستقبل أسواق الطاقة وتحركات اللاعبين الإقليميين، فكانت النتيجة انتصارا سياسيا واقتصاديا مدويا.

استيراد استباقي للغاز يكسر ابتزاز إسرائيل
تحسبا لأي تصعيد، بدأت مصر في ديسمبر 2024 خطوات استباقية لتأمين احتياجاتها من الغاز، عبر التعاقد على استيراد ما بين 155 و160 شحنة غاز مسال خلال 2025.
ومع تفاقم الأزمة، ضمنت مصر 14 شحنة متعاقد عليها مسبقا، وأبرمت صفقات ذكية لتوريد 45 شحنة من السوق الفورية، ثم عززت موقفها بالتوقيع مع شركتي "شل" و"توتال" لتأمين 60 شحنة إضافية.
ورغم أن التكلفة الإجمالية تراوحت بين 7 و8 مليارات دولار، فإن تلك التحركات حررت مصر من الابتزاز الإسرائيلي، وحمت الشبكة الكهربائية من الانهيار.
اتفاقيات طويلة الأجل
وفي مواجهة الضغوط الطارئة، لجأت مصر إلى سياسة النفس الطويل، ووقعت اتفاقيات طويلة الأجل لتوريد الغاز حتى 2028 مع دول مثل قطر والجزائر، متفاوضة على تسهيلات دفع مريحة جعلت من تل أبيب شريكًا أقل جدوى اقتصاديا.
فبينما كانت إسرائيل تفرض شروط الدفع الفوري، ضمنت مصر شروطا أكثر مرونة واستقرارا، ما أعطاها هامشا أوسع للمناورة وحرر قراراتها من أي إملاءات سياسية.

تأهيل البنية التحتية لقطاع الغاز المصري
الرؤية التي حملها الرئيس السيسي لم تكتف برد الفعل، بل ذهبت لبناء المستقبل، فشهد عام 2025 طفرة في البنية التحتية لقطاع الغاز، حيث استأجرت مصر وحدة "إنرجوس باور" من "نيو فورتريس إنرجي"، ووصلت بالفعل إلى المياه المصرية في مايو، كما وقعت اتفاقا مع "هوج إيفي" النرويجية لإنشاء محطة عائمة في ميناء سوميد، إضافة إلى وحدة تخزين من "بوتاش" التركية.
كل ذلك ضمن سياسة توسعية استهدفت تعزيز قدرة مصر على استقبال وتسييل الغاز، بما يضمن الاستجابة السريعة لأية طوارئ، وتحقيق الاستقرار خلال ذروة الطلب الصيفي.
رؤية متكاملة للطاقة.. سيطرة كاملة على أزمة الغاز
استكمالًا للصورة، سرعت الحكومة تنفيذ مشروعات الطاقة المتجددة، لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري مستقبلا.
كما تم تخصيص 60% من واردات الغاز لتوليد الكهرباء، بما يضمن استمرارية الخدمة دون انقطاع، مع إدارة ذكية للموارد منعت تأثير الأزمة على القطاعات الحيوية، فيما تم التعامل بمرونة مع تقليص مؤقت لإمدادات مصانع البتروكيماويات.
الضربة الأقوى جاءت سياسيا حين أجبرت التحركات المصرية إسرائيل على العودة للتصدير، فبنهاية مايو، استأنفت تل أبيب ضخ 800 مليون قدم مكعب يوميًا بعد أن فشلت محاولتها في تطويع القاهرة أو الضغط عليها، وكانت هذه لحظة الانكسار الإسرائيلي.
بل وذهبت مصر لأبعد من ذلك، عبر مفاوضات مع قبرص لإسالة غازها داخل الأراضي المصرية، ما يهدد مشروعات إسرائيل الطموحة وعلى رأسها أنبوب "إيست-ميد"، في ضربة مزدوجة للهيمنة الإسرائيلية على مشهد الطاقة في شرق المتوسط.

حلم مصري للتحول لمركز إقليمي للغاز
لم تكتف مصر بما تحقق، بل تسير نحو تعزيز إنتاجها المحلي عبر طرح مزايدات عالمية للتنقيب في البحر المتوسط ودلتا النيل، مع آمال كبيرة في دخول حقل "كرونوس" القبرصي الخدمة بحلول 2028.
ومع توسع الاستثمارات في الطاقة المتجددة، ترسي مصر قواعد أمن طاقي طويل الأمد، وتعزز مكانتها كلاعب محوري في سوق الغاز الإقليمي.
وبإدارة محنكة، وقرارات حاسمة، وصفقات مُتقنة، قاد الرئيس عبد الفتاح السيسي معركة معقدة ضد محاولات الابتزاز الإسرائيلي، وحول مصر من ضحية محتملة لأزمة إلى قائد إقليمي يفرض شروطه.

ولم يكن الانتصار مجرد تأمين للطاقة، بل كان إعلانًا صريحًا عن صعود قوة مصرية جديدة في ميدان السيادة الاقتصادية، والسيطرة على مقدراتها، بعيدًا عن ضغوط السياسة أو مفاجآت الحلفاء.
وفي النهاية، نؤكد على أن ما حدث في ملف الغاز، ليس مجرد تجاوز لأزمة.. بل معركة ربحتها القاهرة على طريقتها، ولقنت إسرائيل درسًا جديدًا لإدارة واحدة من أصعب الملفات التي واجهت مصر هذا العام.
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل الإخباري يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.