في بث مباشر على تيك توك لا يتجاوز عدد متابعيه بضع عشرات، دار نقاش مألوف لكنه مثير للقلق، وهو أحد تلك النقاشات التي باتت تتكرر على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة منذ سنوات بعدما خرجت من ردهات الجامعات والجمعيات المدنية والصالونات الفكرية. على شاشة هاتفي ينقسم النقاش بين شابين مجهولي الهوية، كلٌّ منهما يمثل تيارًا متضادًا في فهم الهوية المغربية، بينما تتوالى التعليقات الحماسية في الشريط المباشر وكأنها وقود لجدل لا نهاية له. «نحن جميعًا أمازيغ في أعماقنا»، قال أحدهما بحماس، مستندًا إلى دراسة جينية تزعم أن نسبة كبيرة من المغاربة ينحدرون من أصول شمال افريقية. ثم يضيف بحُجّة يبدو أنها تلقى رواجًا متزايدًا: «الهوية تُحدَّد بالأرض. نعيش على أرض أمازيغية، إذن فنحن أمازيغ». ثم يضيف: «كل من وفد الى هذه الأرض الأمازيغية يصبح أمازيغيا رغما عنه». في المقابل، يرد الآخر بنبرة لا تقل حدة: «المغرب دولة عربية إسلامية. لغتنا الرسمية هي العربية، والتاريخ الحضاري العربي-الإسلامي هو الذي شكّل الدولة كما نعرفها اليوم. هذا هو الإطار الجامع لكل المغاربة». ثم يضيف آخر: «أنا أصولي عربية ويمكن أن أثبت ذلك بشجرة أجدادي…». ولمدة أكثر من ساعتين تراشق متدخلون آخرون بنفس النبرة والاستقطاب، ووصل النقاش في بعض الأحيان الى السب والشتم.
هذا النوع من النقاشات الرقمية بات ظاهرة مألوفة على منصات مثل تيك توك، خصوصًا في الحسابات التي تُعنى بالهوية والثقافة والسياسة. لكن الواقع خارج هذه الفقاعات الافتراضية يبدو مختلفًا تمامًا. في حياة المغاربة اليومية، لا أحد يفتح نقاشًا عن الأصل العرقي أو يحاول تصنيف الآخر. في المقاهي، في الأسواق، في الطوابير أمام الإدارات، وفي الحافلات، ما يشغل الناس ليس “من نحن؟” بل “كيف نعيش؟”. المغاربة يعيشون هويتهم بشكل طبيعي وهادئ، دون حاجة لتعريفها أو تبريرها. هم يعرفون أنفسهم ببساطة كمغاربة، ويهتمون بما يمس حياتهم فعليًا: غلاء المعيشة، جودة التعليم، كرامة العلاج، وعدالة القضاء. فالهُوية بالنسبة لغالبية المواطنين ليست أزمة وجود، بل خلفية مشتركة نُمارس في ظلها يومياتنا، ونتقاسم بها طموحاتنا وهمومنا، دون الحاجة للصراخ أو الاستقطاب.
ومع ذلك، فإن تصاعد هذه النقاشات عبر وسائل التواصل الاجتماعي يكشف عن أزمة أعمق، ليست بالضرورة قائمة على الكراهية، بل على أزمة تعريف: من نحن؟ ومن نكون في ظل ماضٍ متعدد الطبقات، وحاضر سريع التحوّل، ومستقبل مفتوح على احتمالات كثيرة؟ الهوية المغربية لا يمكن اختزالها في أصل واحد أو لغة واحدة أو سردية واحدة. إنها نسيج معقّد، تشكّل عبر قرون من التفاعل بين حضارات وشعوب ومناخات جغرافية مختلفة. من الفينيقيين والوندال والرومان، إلى العرب الفاتحين، ثم الأندلسيين، فالاستعمار الفرنسي والإسباني، مرورًا بالاستقلال، وبناء الدولة الحديثة. كل مرحلة من هذه المراحل أضافت خيوطًا جديدة إلى نسيج الهوية، ولم تمحُ ما قبلها.
اللغة بدورها تعد عنصرًا حساسًا في هذا الجدل. الدارجة المغربية، التي يتحدث بها أغلب المغاربة، هي في ذاتها لغة هجينة تحمل في طياتها مفردات عربية وأمازيغية وفرنسية وحتى إسبانية. إلى جانبها، تحضر الأمازيغية بكل متغيراتها—السوسية، الاطلسية، والريفية—كلغات أمٍّ لملايين المغاربة. ثم تأتي الفرنسية، التي ما تزال طاغية كلغة تعليم وإدارة وأعمال. هذا التعدد اللغوي، رغم ما يثيره من توترات، يعكس واقعًا مركّبًا أكثر من كونه صراعًا ثنائيًّا.
الدين عنصر آخر في هذه المعادلة. الإسلام هو الدين الرسمي للمملكة، لكن الإسلام المغربي ليس واحدًا جامدًا. فهو يحمل في طياته رواسب من التصوف، والفقه المالكي، والتقاليد المحلية التي شكلت علاقة المغاربة بإيمانهم بطريقة مختلفة عن النماذج المشرقية. وإلى جانب الأغلبية المسلمة، يظل الوجود اليهودي المغربي، رغم تضاؤله العددي، جزءًا من ذاكرة جماعية أوسع لا يمكن إنكارها. ثم هناك الجغرافيا—الريف، الأطلس، الصحراء، المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وفاس، والقرى الجبلية أو الصحراوية. كل منطقة تطبع سكانها بتجربة مختلفة للانتماء، لكن الجميع يتقاسمون الانتماء الأوسع إلى «الوطن المغربي».
ولعل أهم عنصر يوحّد هذه الفسيفساء هو الرمز السياسي: الملكية، التي لطالما لعبت دورًا ضامنًا للتوازن بين مكونات الهوية المغربية، عبر خطاب يجمع ولا يفرّق، ويعترف بالتعدد دون أن يسمح بانفلاته.
إن الخطر الحقيقي لا يكمن في الاختلاف، بل في محاولات تسليحه. عندما يتحول خطاب الهوية من دعوة للاعتراف والتمكين إلى منبر للإقصاء والتخوين، تبدأ الشعوب بالسير على حواف الهاوية. فالمطالبة بهوية “أمازيغية أولاً”، إن لم تُصاحبها رؤية شاملة لوحدة الوطن، قد تتحول إلى نزعة انعزالية. في المقابل، رفض كل مكوّن غير عربي، والتقليل من شأن الثقافة الأمازيغية، ليس دفاعًا عن الوحدة، بل دعوة لتكرار أخطاء الماضي.
لقد وضع دستور 2011 حدًا للغموض المفتعل حول سؤال الهوية، وعبّر بلغة واضحة عن طبيعة الانتماء المغربي. فقد أكد في ديباجته أن: «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الأفريقية، والأندلسية، والعبرية، والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء».
إن عبارة: «وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية» دقيقة وعميقًة في نفس الآن. هذه الجملة ليست مجرد تزويق لغوي، بل تعبير صريح عن وعي المشرّع بأن الهوية المغربية ليست مجرد جمع لمكونات متعددة، بل هي نسيج حيّ، متماسك، تطلّب قرونًا من التراكم التاريخي والتفاعل الحضاري ليُشكّل هذا “التلاحم” الفريد. اختيار كلمة “تلاحم” بدل “تنوع” أو “تعدد” لم يكن عفويًا؛ فالرسالة واضحة: هذه الروافد (العربية، الأمازيغية، الحسانية، الأندلسية، الإفريقية، العبرية، المتوسطية) ليست جزرًا منفصلة، بل أجزاء متداخلة ومتكاملة ضمن هوية وطنية واحدة. أما “الصيانة” فهي دعوة مستمرة ويقظة جماعية لمواجهة كل خطاب يُهدد هذا التماسك، سواء أكان خطاب تعصب ثقافي، أو عنصرية لغوية، أو محاولات اختزال المغرب في مكوّن واحد دون الآخر. إن الحفاظ على هذا التلاحم ليس ترفًا فكريًا، بل شرط ضروري لاستمرار الوطن الواحد في وجه أمواج التفكيك التي تشتدّ في زمن الأزمات.
لقد رأى العالم من قبل كيف يُمكن لخطاب الهوية أن ينقلب إلى لعنة. في ألمانيا النازية، أدت نظريات “النقاء العرقي” إلى جرائم راح ضحيتها ملايين البشر. في جنوب إفريقيا، حوّل نظام الفصل العنصري “الاختلاف” إلى قانون إقصاء وتمييز. وفي يوغوسلافيا السابقة، فتّتت الهوية الإثنية بلدًا كاملاً كان موحدًا لعقود. في المغرب، لا نزال نعيش نعمة الاستثناء. المجتمع المغربي، رغم تعدده، لم يسقط في فخ الانقسام العرقي أو الطائفي. بل إن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرّقنا. لكن الحفاظ على هذا التوازن يتطلب يقظة، ووعيًا جماعيًا بخطورة الوقوع في فخ التطرف الهوياتي، سواء كان متستّرًا خلف مطالب ثقافية مشروعة أو متدثرًا بشعارات وحدة زائفة. الهوية ليست جينات، ولا لغة واحدة، ولا سردية جاهزة. إنها حوار مستمر بين الماضي والحاضر، بين الموروث والاختيار، بين ما وُرّث لنا وما نقرره بأنفسنا.
في النهاية، لا يُمكن اختزال الهوية في أصل عرقي، أو لغة، أو جغرافيا. بل هي منظومة حية تتشكل من اللغة والدين، والتقاليد، والذكريات المشتركة، والإرث السياسي، وحتى من المطبخ والموسيقى، والملابس، والأمثال الشعبية، والاساطير. كل هذه العوامل مجتمعة تصنع ذلك الشيء غير الملموس الذي نسميه «الانتماء». وقد ابدعت الدكتورة فاطمة صديقي، عندما قالت: «الهوية المغربية أشبه ببلاط الزليج: كل قطعة تحتفظ بلونها، لكنها معًا تُشكل كلاً متماسكًا». ما يحتاجه المغرب اليوم ليس إعادة تعريف هويته، بل الدفاع عنها من محاولات التبسيط القاتل. لأن الهوية، إذا ضُيقت إلى حدّ الاختناق، لا تعود مصدراً للفخر، بل تصبح وقوداً للفتنة.