يتفق المتخصصون على أن الطرق التربوية الحديثة تعتمد على مختلف الوسائل التعليمية التي أصبحت تعرف تطورا سريعا في الزمن الراهن؛ بل إنها تشكل موضوعا للتفاخر بين المؤسسات التعليمية والتربوية فيما بينها. كما يعتبر نقص تلك الوسائل من المحددات التي تلعب دورا بارزا في التصنيف العلمي والمعياري على المستوى الدولي لتلك المؤسسات؛ وهو ما أصبح يفرض بالضرورة توفر تلك المؤسسات على آليات بيداغوجية تبلور منظومة متكاملة بين تكوين الفرد على المستوي العلمي المباشر وبين خلق بنية ذهنية سليمة تؤمن وتعتز بماضيها على المستوى الحضاري وتدفع بها إلى العمل جديا للمساهمة بدورها في نسيج التقدم الذي حققه أسلافها بنوع من المسؤولية العلمية وبحب وشغف لمهنتهم ونبل موقعها ضمن النسيج الاجتماعي، عبر فضاءات رمزية وفنية متمثلة في المتحف المتخصص في التراث الطبي والمسار التاريخي للمؤسسة التي يدرس بها أو مر عبر فصولها في زمن من أزمنة التحصيل والتلقي العلمي والتربوي.
تلك المحددات دفعت إلى تناول موضوع التراث الطبي المغربي الأمازيغي والعربي الإسلامي من البحث العلمي إلى التحافة، وفق ثلاثة محاور أساس متمثلة في:
المحور الأول: من غائية التاريخ إلى التحافة.. مسارات وأهداف
يعرّف ابن خلدون علم الطب بأنه: “حفظ الصحة للأصحاء، ودفع المرض عن المرضى بالمداواة، حتى يحصل لهم البرء من أمراضهم”. ويعرّفه ابن الأكفاني بأنه: “علم يبحث فيه عن بدن الإنسان من جهة ما يُصحُ ويُمرِضُ، لالتماس حفظ الصحة وإزالة المرض”. أما التعريف الحالي، فيشير إلى أنه: “علم وفن يبحثان في علاج الأمراض والوقاية منها، ومنع حدوثها، والمحافظة على صحة الأبدان، وعلاجها إن أصابها مرض، علاجا متكاملا جسمانيا ونفسيا؛ فالطب يحفظ الصحة حاصلة ويستردها زائلة، ويتم علاج الأمراض إما بالغذاء المناسب، أو الدواء الملائم، أو بالاثنين معا، أو بالجراحة، أو بالعلاج النفساني، أو بالجمع بينهما” (حسين حمد حسين الفقيه، تاريخ العلوم التطبيقية في الحضارة الإسلامية، قنديل للطباعة والنشر والتوزيع، دبي، 2018، ص. 21.).
إن استحضار هذه المعاني، اليوم، ليس من قبيل تقديم تعريفات عن الطب ومجالاته؛ لكن القصد منها هو رسم معيار المؤرخ في توصيف ميكانيزمات الفعل الإنساني المرتبط بتاريخ الطب ومجالاته، على مستوى ما يعرف بتاريخ المعرفة والآلة والإنسان معا خدمة لحقل معرفي متمثل في الطب نفسه، بل خدمة لتحقيق نقل للمعرفة التاريخية الطبية من المجال المكتوب والمدون تحديدا إلى مجال متحفي يجمع ما بين عناصر التحافة ومكونات التربية والتثقيف وحفظ وصيانة التراث الطبي، ليس على المستوى الضيق المتمثل في التراث العربي والإسلامي فحسب، بل ضمن مكون شمولي يؤمن بالتفاعل المعرفي ضمن مجالات الطب واختصاصاته خدمة للإنسانية وليس فعلا احتكاريا أو إيديولوجيا إقصائيا لأي إنتاج علمي مصدره الإنسان السوي. بل العمل على تقديم تصويبات تاريخية لاحقت التراث العربي والإسلامي وعلماءه منذ نيف من الزمن، وتقديمها إلى المتلقي المختص وغيره لإحياء ذلك الموروث الغني الذي طالما طاله النسيان بين أروقة ورفوف الخزانات والمكتبات وطنيا ودوليا.
زد على ذلك، فإن استحضار الجانب المتحفي في علاقته بالتراث الطبي المغربي الأمازيغي والعربي الإسلامي يهدف إلى العمل على ربط الماضي بالحاضر؛ من خلال إبراز قيمة الجهود العلمية التي تحققت على مستوى التربية والتكوين في المجال الطبي المغربي في صلته بالتطورات العالمية. كما أن الطابع النوعي لمتحف مؤسساتي وجامعي يرصد تاريخ الطب العربي والإسلامي بمدينة العلم والمعرفة، فاس العتيقة، يعد بمثابة منارة علمية حقيقية بالغرب الإسلامي، والتي بإمكانها الانفتاح بشكل أكبر على المجال الجامعي الطبي الدولي، عبر تبادل المعارف ووضع بنية فعالة لتنمية حقيقية تساعد أطر وطلبة الطب بكلية الطب والصيدلة وطب الأسنان على تحقيق ذلك التمازج المعرفي في تقديم خدمات واسعة في التعريف بالتراث المغربي الأمازيغي والعربي والإسلامي بلغة اجتماعية وثقافية قلما يتقنها الغرب على مستوى بنيات الذهنيات والثقافات والعادات والفكر بشكل عام. دون إغفال الوظيفة التربوية للمتحف والتي تنسجم مع تعريف علماء المتاحف باعتباره “مؤسسة تعرض مجموعات من الممتلكات الثقافية في سبيل المحافظة عليها ودراستها والإفادة منها في التربية وإثارة السرور الجمالي” (بشير زهدي، المتاحف، دراسات ونصوص قديمة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1988، ص. 77.) وتعميق التخصص العلمي بشكل مميز ضمن فضاءات المتاحف النوعية المتمثلة في المتاحف الجامعية التي نحن اليوم في أمس الحاجة إليها.
إن الحديث عن التحافة أو إنشاء متاحف متخصصة يقتضي العمل على بلورة منظور سليم للأهداف المسطرة تنبثق عن فعل تشاركي بين مختلف الفاعلين والمهتمين؛ من باحثين ومهنيين وجيل جديد من الشباب منفتح على روح العصر والتكنولوجيا، بوعي ذاتي في الحفاظ على الجانب الهوياتي والبعد الثقافي المحلي والاعتزاز بمسارات علماء أسدوا الكثير لمجال الطب والصيدلة وطب الأسنان بشكل عام.
فأين تكمن تجليات وعناصر وضع متحف للتراث الطبي بفضاء جامعي منفتح على بنية ثقافية عريقة وضاربة في التاريخ متمثلة في مدينة فاس، التي تحتضن بين ظهرانيها أقدم جامعة في العالم كان تدريس الطب حاضرا بين أروقتها بأشكال ومظاهر تثقيفية نوعية تقتضي التفصيل والتوثيق والاعتراف؟
المحور الثاني: مقاربة نوعية لمتحف جامعي للتراث الطبي المغربي الأمازيغي والعربي والإسلامي
من البيّن أن العمل على وضع تصور خاص لمتحف جامعي للتراث الطبي المغربي الأمازيغي والعربي والإسلامي يقتضي وضع تصور جماعي من مختلف الفاعلين والمهتمين مبني على نقاش بناء حول بنية وهندسة وعناصر وأهداف المتحف، حيث يشكل التصور التالي منظور المؤرخ الذي يعد حلقة من حلقات تلك السلسلة الفكرية المشتركة التي لا محيد عنها.
ومن ثمّ، فإن التصور المذكور يحمل بُعدين سينوغرافيين يختلفان من حيث البناء؛ لكن يشتركان في الأهداف والغايات، حيث يتمثل الشق الأول منه في تحقيق مقاربة كرونولوجيا لمسار تطور الطب المغربي الأمازيغي والعربي والإسلامي، تنطلق من نواته الأولى في صلتها بالثقافات الطبية اليونانية والإغريقية، مرورا بفترة الإشعاع الحضاري في المجال الطبي خلال الفترة الإسلامية، وخاصة على عهد المرابطين والموحدين والمرينيين، وصولا إلى العصر الحديث والفترة العلوية وما واكبها من تحولات على مستوى الفترة الاستعمارية، إلى البدايات الأولى لوضع المؤسسات الطبية المغربية وإنشاء الجامعات المتخصصة حسب سياقاتها التاريخية، ليصل المحور إلى فترة إنشاء كلية الطب والصيدلة وطب الأسنان بفاس، مع تحديد مختلف المحطات المفصلية في طبيعة تطور المجال التعليمي بها، ورسم معالم الأبحاث المميزة في صلتها بالتطور الذي عرفه مجال الطب بشكل عام.
أما المستوى الثاني من المقاربة، فيرتبط بتحقيق تتبع موضوعاتي، يصل مكونات علم الطب بعضها ببعض، انطلاقا من تتبع مجالات الطب في نواته الأولى عبر المسار التاريخي، وصولا إلى التعريف بأهم الإنجازات العلمية التي حققها الطب المغربي في الاختصاصات المختلفة ضمن العلوم الطبية بشكل عام. زد على ذلك، تتبع مختلف النظريات العلمية في مجال العلاج في صلتها بالمكون العالمي، من الطب في العصور القديمة، والعصور الإسلامية، مع الوقوف عند إسهامات المسلمين في علم الطب، وما واكبه من تطوير لآلات الجراحة، وعلم التشريح، وطب العيون، وطب الأطفال، وطب النساء والولادة. كما يعمد هذا التصور الموضوعاتي للمتحف إلى وضع تاريخ البيماريستانات المتنقلة والمحمولة، وعلم النبات وتقديم مساهمات العلماء المغاربة في ذلك، وعلم الصيدلة، مع ربط حضور العلماء المغاربة بتاريخها وما كان معلوما منها لدى بقية الشعوب الصينية والفرس والإغريق. زد على ذلك ما يرتبط أيضا بعلم الأحياء وعلم الحيوان والبيطرة والبيزرة.
كما يتضمن هذا التصور وضع محور خاص بمجال تعليم الطب وأصوله، منذ الفترات القديمة إلى الفترة المعاصرة بالمغرب، مع الجمع بين الطابع التاريخي وبين الشق المعاصر في آن واحد؛ وهو ما سيفضي بالزائر إلى التعرف على المضامين المعرفية التي شكلت لبنة أساس من لبنات تكوين الطبيب المغربي، وخاصة على المستوى المهني، وما يتعلق بالشق الأخلاقي وصلة الطبيب بمجتمعه. ويتضمن هذا الشق، أيضا، تسطيرا للشراكات العلمية المنجزة ولقاءات الطلبة ومختلف أنشطتهم الثقافية ضمن ما يمكن تعريفه بفضاء الطالب والذاكرة، مع تتبع مسارات الأنشطة العلمية للكلية من ندوات وورشات ولقاءات تكوينية مختلفة.
معطيات يتم إغناؤها زمنيا، مع اتساع مجالات أنشطة الكلية في صلتها بالشق التعليمي والتثقيفي، وتتبع مسارات الخريجين من الكلية، وخاصة المتميزين الذين بصموا تاريخ الطب المغربي بإنتاجاتهم العلمية وخدماتهم الإنسانية بشكل عام، مع استحضار شق الذاكرة المتعلق بالمديرين والأطر التعليمية الذين تعاقبوا على خدمة المجال التعليمي بالكلية ضمن مختلف المحطات، والاعترافات الدولية التي حصلوا عليها نتيجة اجتهاداتهم ونشاطهم الدؤوب خدمة للتراث والمعرفة الطبية بشكل عام. فما هي آليات تنزيل هذه المستويات الفكرية والتاريخية والتيماتية في سياق متحف مخصص للمجال التراثي والتعليمي والتثقيفي الطبي؟
المحور الثالث: المتحف التراثي الطبي المغربي المعاصر.. من الموضوع إلى التحافة
إذا كان المتحف يشكل مرآة المجتمع، فإن وضع بنية هندسية معاصرة تصبح ملازمة للفعل المتحفي، أي اعتماد مقاربة سينوغرافية وفنية منسجمة مع السياق الهندسي للفضاء المحتضن للمتحف، يراعي التطور التكنولوجي القائم في المجال على مستوى تقديم المواد المتحفية وعرضها بشكل عام.
إن استحضار الجانب التراثي والتاريخي ليس معناه الابتعاد عن توظيف المكونات الحديثة الخاصة بالعرض، والتي يجب أن يطبعها التنوع والغنى على المستويين التنظيمي والفني معا في انسجام مع طبيعة التحف المعروضة وسياقها التراثي ونوعية وجمالية حواملها المادية التي تستقي مضمونها الفني من غنى وجمالية الإبداع المغربي التاريخي، بل من إبداعات مدينة فاس العريقة، حيث يتم وضع الزائر في نسق جمالي مغربي صرف، يميزه عن بقية الفضاءات المتحفية في البلدان الأخرى التي اهتمت بدورها بوضع متاحف جامعية متخصصة في مجال تاريخ الطب.
وبهذا، وبعد تحقيق الاجتهاد اللازم في إعداد الفضاء المناسب، في تنسيق من اللجنة العلمية المتحفية، تتحدد سمات وعناصر العرض، والتي تجمع ما بين تقديم شق مهم من التراث الطبي المخطوط المغربي والعربي والإسلامي بل الغربي أيضا، في صلته بتطور مجال الطب، بالإضافة إلى عرض فصول موجزة عن أشهر الأطباء المغاربة والأندلسيين حسب تخصصاتهم العلمية عبر شاشات تفاعلية، حسب طبيعة وسياقات موضوعات المتحف، فضلا عن إعداد لوحات فنية تسطر منعطفات تطور تاريخ الطب بالغرب الإسلامي، وبعض المجسمات المرتبطة ببعض المعالم الطبية القديمة، هذا مع عرض مختلف أدوات التطبيب من آليات وأدوات جراحة وتشريح قديمة، إلى جانب عرض لمختلف النباتات الطبية التي برع في توصيفها الأطباء المغاربة منذ القدم، بالإضافة إلى عرض لوصفات لمختلف الأطعمة الصحية ودورها في الحفاظ على صحة البدن.
يتعلق العرض على المستوى المعاصر بتقديم مختلف محطات تطور التعليم بكلية الطب والصيدلة، مع ربطه بشق تاريخي يتعلق ببداية فصول تعليم الطب لدى المغاربة. ومن ثم، العمل على تتبع تطور المجال التعليمي الطبي المغربي خلال فترة الحماية الفرنسية، حيث تعرض صورا ولوحات وشهادات عن المستشفيات الأولى التي تم إنشاؤها بالمغرب، وصولا إلى تقديم لوحات وصور وتحف تتعلق بالنواة الأولى للطب بمغرب الاستقلال، حيث يتم صلة ذلك التطور بوضع خريطة تفاعلية عن تمركز مختلف كليات الطب والصيدلة بالمغرب، وتحديد التوجهات العامة الخاصة بعاهل البلاد والمتضمنة للخطب الرسمية ذات الصلة بالمجال التعليمي الخاص بالطب والصيدلة وطب الأسنان بشكل عام.
كما يخصص الجناح لتسطير مسار تطور كلية الطب والصيدلة وطب الأسنان، عبر تقديم جميع العناصر المتعلقة بالتخصصات العلمية التي تحتضنها الكلية، ووضع خطاطة تفاعلية تضم أهم البحوث المنجزة بالكلية وبيانات وصفية لمجمل أنشطتها العلمية، فضلا عن تشكيل حديقة الكلية جزءا علميا وتاريخيا من المتحف، مع وضع لوحة رمزية تضم العمداء الذين تعاقبوا على الكلية وبعض شهاداتهم في المجال الطبي في صلته بالتراث وبالثقافة المغربية في ظل الانفتاح على العالم ضمن البعد الإنساني لمهنة الطبيب النبيلة التي من الصعب أن يقفز عليها الزمن التاريخي بل زمن الذاكرة التي يعد المتحف تاجها ونبراس حضارتها، بل وحضارة المجتمع وثقافته بين الأمم، خاصة حينما يتعلق الأمر بمتحف يؤرخ للمجال العلمي والأكاديمي ضمن الفضاء الجامعي المميز.