
لم يكن انسحاب مجموعة فاغنر من مالي إعلان نهاية؛ بل إشارة إلى بداية مرحلة جديدة من النفوذ الروسي في إفريقيا.
خلف شعار “المهمة أُنجزت”، تُخفي موسكو عملية إعادة هيكلة دقيقة، تنتقل فيها من الارتزاق الموازي إلى تمركز عسكري رسمي تحت مظلة “فيلق إفريقيا”.
ما تغيّر ليس الهدف؛ بل الأسلوب. روسيا، التي غيّرت بوصلتها الإستراتيجية نحو الجنوب منذ العقوبات الغربية على خلفية غزو أوكرانيا، لم تعد تسعى إلى موطئ قدم فقط؛ بل إلى شراكة تُضفي “الشرعية” على حضورها العسكري والسياسي. من إفريقيا الوسطى إلى السودان ومالي، يتضح أن الكرملين بات يتقن توظيف خطاب “مناهضة الاستعمار” لتقويض النفوذ الغربي، وإعادة هندسة سلطته بواجهة أكثر انضباطًا.
فاغنر، التي لطالما أثارت الجدل بأساليبها الملتبسة، لم تختفِ؛ بل تبدّلت هندسيًا. وحسب مصادر دبلوماسية، فإن عناصرها الروس يُعاد دمجهم في وحدات تابعة لوزارة الدفاع الروسية؛ بينما تبقى المهام كما هي: حماية الأنظمة، ومحاربة الجماعات المسلحة، وتأمين المصالح الاقتصادية لموسكو.
التحوّل في مالي ليس استثناء؛ بل جزء من عقيدة روسية جديدة: مزيج من القوة الناعمة والخشنة، يستبدل الفوضى بالتنسيق، والعمليات السرية بالتصريحات الرسمية، من دون المسّ بجوهر الهيمنة.
غياب شعار “فاغنر” لا يعني تراجع النفوذ الروسي؛ بل العكس: إن موسكو تُعيد ترسيم خريطتها الإفريقية بهدوء واستمرارية. فما يبدو انسحابًا هو في الحقيقة تثبيت نفوذ، وتحويل إفريقيا من ساحة صراع إلى سوق للسيادة المؤجّرة. حيث لا تنتهي الحروب؛ بل تتغيّر أعلامها وأساليب إدارتها.