تتحرك الدولة المصرية بخطى متسارعة لخلق حالة من الأمن الغذائي للمواطن في العديد من السلع وعلى رأسها القمح، فبينما يقع العالم تحت وطأة أزمات غذاء متكررة، تتجه مصر إلى تغيير قواعد اللعبة، سعيا لتقليل التبعية للمستورد، وبناء قدرة ذاتية على تأمين رغيف العيش من الحقل المحلي، وعدم الاعتماد على الاستيراد.
هذا التحول لا يأتي مجرد استجابة ظرفية لأزمة أو حرب، بل كجزء من رؤية استراتيجية طويلة المدى، تعيد رسم خريطة الأمن الغذائي في البلاد، وتعزز من قوة القرار السيادي في واحدة من أهم معاركه وهي: “الاكتفاء الذاتي من القمح”.
وبعد زيادة الانتاج هذا العام من محصول القمح وتقلقل نسبة الاستيراد تبادر إلى الأذهان تساؤلات هامة: هل نجحت مصر حقا في تقليص الفجوة؟ وهل بات حلم الاستغناء عن القمح المستورد قريب المنال؟، في التقرير من بانكير، سوف يرصد بالأرقام والتحليل مسار هذه المعركة، وما تحقق منها حتى الآن.
هل اقتربت مصر من التوقف عن استيراد القمح؟
في ظل أزمات الغذاء العالمية واضطرابات سلاسل الإمداد، تكثف الدولة المصرية جهودها لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، باعتباره سلعة استراتيجية تمثل ركيزة الأمن الغذائي القومي، وتأتي هذه التحركات ضمن رؤية شاملة لتعزيز الإنتاج المحلي، ورفع كفاءة التخزين، وتقليص الاعتماد على الواردات تدريجيًا، في مواجهة تحديات اقتصادية وجيوسياسية معقدة.

توسع زراعي وتطوير تخزيني
بدأت مصر تنفيذ خطة طموحة خطة مصر لزيادة الرقعة الزراعية وتحسين إنتاجية الفدان، بالتوازي مع تطوير منظومة التخزين لتقليل الفاقد.
وتشمل هذه الخطة إنشاء صوامع حديثة، ما أسهم في رفع كفاءة منظومة التوريد، وضمان جودة المحصول، وتحقيق استقرار نسبي في السوق المحلي.
وتعد هذه الجهود جزءا من استراتيجية وطنية تستهدف تحقيق الأمن الغذائي، عبر دعم المزارعين، وتوسيع مساحات الزراعة، واستنباط أصناف جديدة أكثر إنتاجية، بالإضافة إلى تقديم الحوافز والتسهيلات التي تشجع على توريد المحصول المحلي.
إشادات دولية بتعزيز انتاج القمح في مصر
التحركات المصرية نالت إشادة دولية واسعة، فقد أكدت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، أن قرار الحكومة رفع سعر توريد القمح المحلي إلى 2200 جنيه للأردب، وهو ما يزيد بنسبة 25% عن متوسط السعر العالمي، يعكس حرص الدولة على دعم المزارعين، وتحفيزهم على التوسع في زراعته.
وفي السياق ذاته، أشارت وكالة "فيتش سوليوشنز" إلى أن وزارة الزراعة تكثف جهودها لزيادة الإنتاج المحلي من القمح عبر التوسع في الزراعة داخل الأحواض، واعتماد أصناف عالية الجودة، إلى جانب دعم الإرشاد الفني.
أما وزارة الزراعة الأمريكية، فقد أوضحت أن لجوء مصر إلى شراء القمح المحلي بأسعار مرتفعة أدى إلى توسيع رقعة الزراعة، وهو ما يعد تحولا إيجابيا في مسار تقليل الاعتماد على الواردات.

ارتفاع الإنتاج المحلي من القمح 7.5%
تشير البيانات إلى ارتفاع الإنتاج المحلي من القمح بنسبة 7.5% خلال السنوات الأخيرة، حيث سجل 9.3 ملايين طن في عام 2014، وارتفع إلى 9.8 ملايين طن في عام 2021، وبلغ 10 ملايين طن بنهاية عام 2024.
وفي المقابل، انخفضت واردات القمح إلى 14 مليون طن عام 2024، مقارنة بـ14.9 مليون طن عام 2014، رغم الزيادة السكانية التي رفعت عدد المواطنين إلى 107.2 ملايين نسمة في ديسمبر 2024.
ويعود هذا التراجع في الواردات إلى سياسة الدولة الاستباقية لتأمين مخزون استراتيجي، خاصة بعد أزمة كورونا التي قلصت الواردات إلى 11.1 مليون طن في 2021.
تنوع مصادر الاستيراد من القمح وتعزيز التخزين
وسعت مصر من مناشئ استيراد القمح، ليصل عددها إلى 22 منشأ في عام 2024، مقارنة بـ15 منشأ في 2021، و11 منشأ في 2014، ما وفر مرونة أكبر في التعامل مع التغيرات العالمية.
وشهدت منظومة التخزين قفزة نوعية، حيث ارتفع عدد الصوامع إلى 81 صومعة بحلول عام 2025، مقارنة بـ35 صومعة فقط في 2014، ونتيجة لذلك، زادت السعة التخزينية إلى 3.4 ملايين طن في 2025، بعدما كانت 1.2 مليون طن فقط قبل عقد.
كما تم تطوير ورفع كفاءة 21 صومعة بسعة إجمالية بلغت 530 ألف طن، وتحويل 105 شون ترابية إلى هناجر حديثة بسعة 211.5 ألف طن، وقلص هذا المشروع نسبة الفاقد التي كانت تتراوح بين 10% و15%، بما يعادل خسائر سنوية كانت تصل إلى نحو 10 مليارات جنيه.

دعم المزارعين وتحفيز التوريد
حرصت الدولة على تقديم حوافز مباشرة للمزارعين، من بينها رفع سعر توريد القمح إلى 2200 جنيه للأردب في موسم 2025، مقارنة بـ725 جنيهًا في 2021، و420 جنيهًا فقط في 2014، كما أعلنت الحكومة في سبتمبر 2024 خريطة صنفية تضم 13 صنفًا لتحقيق أفضل عائد من الإنتاج، ووزعت التقاوي المدعومة بناءً على هذه الخريطة.
وتم تخفيض تكلفة الحصاد إلى 1000 جنيه للفدان بدلا من 1200، مع السماح بالاستلام المبكر للمحصول، وسداد مستحقات الموردين خلال 48 ساعة، وتم تجهيز 420 نقطة تجميع في مختلف المحافظات، لاستقبال الأقماح المحلية بشكل منظم وفعّال.
مشاريع قومية زادت من انتاج القمح في مصر
بلغت المساحة المزروعة بالقمح في موسم 2024/2025 نحو 3.1 مليون فدان، بينما وصلت إجمالي المساحات المستصلحة منذ 2014 إلى 2.2 مليون فدان، خاصة في مناطق الدلتا الجديدة وتنمية سيناء وشرق العوينات.
وفي مايو 2024، تم افتتاح المرحلة الأولى من موسم الحصاد بمشروع "مستقبل مصر للتنمية المستدامة" في منطقة الدلتا الجديدة، كما تم استنباط أكثر من 15 صنفًا من قمح الخبز، و6 أصناف من قمح المكرونة عالية الإنتاجية، لتغطية مختلف الاحتياجات.
طفرة في التوريد المحلي وتقليص فاتورة الاستيراد
أكد وزير التموين والتجارة الداخلية، الدكتور شريف فاروق، أن الوزارة جمعت نحو 3.5 مليون طن من القمح المحلي خلال ما يزيد قليلا عن شهر من بداية موسم الحصاد، بزيادة 3% عن الكميات التي تم تجميعها العام الماضي بأكمله.
وأوضح وزير التموين أن الوزارة تستهدف الوصول إلى 4.5 ملايين طن بنهاية الموسم، ما يقلل الاعتماد على القمح المستورد خلال هذا العام.
وتعد هذه الأرقام قفزة بنحو 13% مقارنة بالمستهدفات السابقة، ما يعزز فرص تحقيق طفرة في تأمين الاحتياجات المحلية من القمح عبر الإنتاج المحلي.

تقليل استيراد القمح لـ 6 ملايين طن فقط
رغم الارتفاع الملحوظ في الإنتاج المحلي، إلا أن واردات القمح سجلت قفزة في 2024، لتبلغ 14.2 مليون طن، وهو أعلى مستوى لها خلال العقد الأخير، بزيادة 31%. وبلغت واردات الحكومة 6.2 ملايين طن، بزيادة 30% عن العام الماضي.
لكن الحكومة تخطط لتقليص هذه الكميات تدريجيا، إذ تستهدف استيراد نحو 6 ملايين طن فقط خلال العام الجاري، في ظل استمرار دعم الإنتاج المحلي وتحسين البنية التحتية للتخزين.
وأعلن وزير التموين أن الاحتياطي الاستراتيجي من القمح يغطي احتياجات الاستهلاك لمدة 6 أشهر، إلى جانب احتياطي يكفي لـ6 أشهر من السكر، و4 أشهر من زيت الطعام.
وفي تحرك جديد لتأمين الاحتياطي، تجري مصر مباحثات مع بلغاريا لمقايضة القمح البلغاري مقابل سلع زراعية محلية، في ظل كون بلغاريا رابع أكبر مصدر قمح لمصر بعد روسيا، أوكرانيا، ورومانيا.
دور جهاز "مستقبل مصر" في ضبط استيراد القمح
تسعى الدولة إلى تفعيل البورصة السلعية كأداة لتداول السلع الاستراتيجية، وعلى رأسها القمح، وكانت البورصة قد بدأت نشاطها في نوفمبر 2022، وتم تداول 1.2 مليون طن قمح، بينها 965 ألف طن من القمح الروسي، حتى يناير 2024.
ومع انتقال ملكية البورصة إلى "جهاز مستقبل مصر"، تعمل الدولة على إعادة هيكلتها تدريجيا، لتضم سلعا جديدة، وتُسهم في تنظيم حركة تداول السلع بشكل يحقق الاستقرار للأسواق.
ولعب جهاز "مستقبل مصر"، دورا مهما في ضبط استيراد القمح، حيث استهدف هذا العام تقليل فاتورة استيراد الحبوب بنحو 3.7 مليارات دولار سنويًا، من خلال زيادة الإنتاج المحلي بواقع 2 مليون طن قمح، و200 ألف طن ذرة، و400 ألف طن سكر، وذلك ضمن خطة لاستصلاح 4.5 ملايين فدان من الأراضي الصحراوية خلال الأعوام المقبلة.

مصر في الطريق نحو الاكتفاء الذاتي
رغم أن مصر لا تزال من أكبر مستوردي القمح في العالم، إلا أن البيانات تعكس تحولا جادًا نحو الاكتفاء الذاتي التدريجي، من خلال مزيج من السياسات الزراعية والاقتصادية الطموحة، وتطوير البنية التحتية، وتحفيز الفلاحين، والتوسع في المشروعات الزراعية الكبرى.
وإذا استمرت هذه الوتيرة من الإنجاز، فقد تقترب مصر خلال السنوات القادمة من تحقيق حلم الاستغناء عن القمح المستورد، أو على الأقل تقليصه إلى حدوده الدنيا، وهو ما ستكشف عنه الأشهر المقبلة.
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل الإخباري يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.