
تتجاوز الأعياد في جوهرها التقاويم الموسمية إلى إشارات رمزية في مسار الإنسان نحو وعي أعمق بذاته، وبما يتجاوز ذاته. وعيد الأضحى، في قلب التجربة الإبراهيمية، ليس مجرد مناسبة دينية تتكرر كل عام، بل لحظة وجودية مكثّفة تسائل الإنسان: ما الذي أنت على استعداد للتخلي عنه؟ وما هو “إسماعيلك” الذي تحب، وتخاف فقده، وتُطلب اليوم أن ترفعه قربانًا على مذبح الإيمان؟
إن قصة إبراهيم عليه السلام، كما تُروى في القرآن، تبدأ من حلم لا يخصه وحده، بل يتقاطع مع أشد مشاعر الأبوة إيلامًا. أن يرى الإنسان في المنام أنه يذبح ابنه الوحيد، ثم لا يهرب من الحلم، بل يقف عنده، ويتأمله، ويعرضه على ابنه في حوار يتجاوز المنطق البشري، ذلك وحده يُمثّل لحظة فلسفية نادرة في تاريخ الإنسانية. ويأتي رد الابن: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102]، لا كإذعان أعمى، بل كقبول عميق بمقام الطاعة والثقة، حيث تتقاطع المحبة مع الامتثال.
رمزية الذبح هنا لا تتعلّق بالعنف، بل بـ”القطع” — لا سكين اللحم، بل سكين الهوى، سكين التعلّق، سكين الامتلاك. فحين يهمّ إبراهيم بذبح إسماعيل، فهو لا يذبحه فعليًا، بل يذبح حاجته إلى أن يكون كل شيء ملكًا له، أن يتشبث بالنعمة، أن يرفض الفقد. وهنا يأتي التدخّل الإلهي: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107]، لأن ما طُلب منه لم يكن إسماعيل الجسد، بل إسماعيل الرغبة. الفداء لم يكن بديلًا عن الجريمة، بل إقرارًا بأن القلب اجتاز الامتحان الأعظم: التخلّي حين يكون التعلّق في ذروته.
هكذا يتحوّل العيد من ذكرى إلى مرآة. كل فرد يحمل في داخله “إسماعيلًا” خاصًا به، قد يكون مالًا، أو جاهًا، أو تعلقًا بشخص، أو حتى بهوية نفسية يصعب خلعها. ويأتي عيد الأضحى، لا ليُذكّرنا بأننا نأكل من الذبيحة، بل بأننا نُطلب منا أن نذبح شيئًا في داخلنا، أن نرتقي من مقام العادة إلى مقام المجازفة، ومن طقوس الاحتفال إلى عمق القربان.
الحج، الذي يتقاطع زمانيًا مع العيد، هو المشهد الموازي لهذه التضحية: خلْع الثياب، السعي، الوقوف، الرمي. كلها طقوس تشكّل في مجملها خريطة لرحلة الإنسان من التعلّق إلى التجرد. وإن كان الحج فعل جسد في المكان، فإن العيد هو فعل نية في القلب، وميدان امتحانه داخل كل بيت، وكل علاقة، وكل اختلال بين ما نحب وبين ما يجب.
ليس الكبش هو محور القصة، بل ما يعنيه الكبش: أن الرحمة لا تنفصل عن الامتحان، وأن الفداء لا يُمنح إلا بعد أن تُعلن نية التضحية كاملة. والإنسان، حين يذبح شاته في عيد الأضحى، مدعو لأن يسأل نفسه بصدق: ماذا فيّ لا يزال لم يُضحَّ به؟ أي حبٍ عالق في القلب ينافس محبة الله؟ أي خوفٍ يمنعني من أن أقول: “افعل ما تؤمر، ستجدني من الصابرين”؟
في النهاية، ليس العيد مظهرًا اجتماعيًا ولا لحمًا موزّعًا، بل سؤالًا يطرق القلب: ما الذي إن طلبه الله منك، ستتردد في تقديمه؟ وإن أجبت، بصدق، فقد احتفلت بالعيد حقًا، حتى وإن لم ترتدِ ثوبًا جديدًا، أو تذبح شاة. فالعيد ليس في ما نُعطي للناس، بل في ما نقدر على أن نُعطيه لله من أنفسنا.