
في زمن يُفترض فيه أن وسائل التواصل الاجتماعي فتحت أبوابًا واسعة للمعرفة وسهّلت الوصول إلى المعلومة، أصبحت في الواقع مرتعًا خصبًا للعلم الزائف والمغالطات الفكرية التي تنتشر كالنار في الهشيم داخل المجتمع المغربي، حتى أصبح البعض يعتبر كلام “اليوتيوبر” أو “التيك توكر” الذي يتحدث بثقة مصطنعة وبأسلوب مبهرج أهم من رأي طبيب مختص أو أستاذ جامعي أمضى عمره في البحث والدراسة. هذه الظاهرة لا تقتصر على المجال الصحي فقط، حيث تنتشر خرافات العلاج بالأعشاب، و”الدواء السحري”، و”الطاقة الحيوية”، و”تنظيف الكبد” و”إعادة ضبط الجسم”، بل تمتد إلى مجالات متعددة مثل التاريخ، حيث تنتشر روايات ملفقة حول أصول الشعوب وتاريخ المغرب القديم، تُقدم على أنها حقائق تاريخية، بينما هي في الواقع تلفيقات شعبوية تهدف إلى زرع الفتنة أو التباهي بالهوية، مستندة إلى كتب هامشية أو مصادر مشبوهة. حتى الفلسفة لم تسلم من هذا التزييف، حيث يُنقل عن سقراط أو نيتشه أو ابن رشد أقوال مفبركة، ويُقدَّم التأمل السطحي على أنه تفكير عميق، في حين أن الجوهر الفلسفي يقوم على منهج صارم في الشك والتحليل.
المشكلة الأخطر أن هذا النوع من المحتوى الزائف لا يجذب فقط الأميين أو محدودي التعليم، بل حتى بعض الحاصلين على شهادات جامعية، ما يدل على أن المسألة لا ترتبط بمستوى التمدرس فحسب، بل بغياب المنهج النقدي في التفكير، وبتربيتنا الاجتماعية التي تعلّم الطاعة لا التساؤل، وتقدّس السلطة ولا تشجع على النقاش. ومن بين أبرز الأدوات النفسية التي تساهم في هذا الانزلاق الجماعي نحو تصديق الخرافة ما يُعرف بالتحيّز التأكيدي (biais de confirmation)، وهو ميل الإنسان إلى تصديق المعلومات التي توافق أفكاره المسبقة وتجاهل كل ما يخالفها، فمثلًا من يعتقد أن “الأدوية تضر” سيجد ألف فيديو يدعم فكرته، ويرفض الاستماع لأي طبيب يشرح الفوائد والمخاطر بشكل علمي متوازن. كذلك نجد التحيّز في الانتقاء (biais de selection)، حيث يروّج البعض لأمثلة فردية كشواهد مطلقة، مثل شخص “كان لديه سرطان وشُفي بالأعشاب”، دون النظر في آلاف الحالات التي تدهورت بسبب العلاج العشوائي. ويُضاف إلى ذلك مغالطة الاحتكام إلى الطبيعة
(appel à la nature)، حيث يُفترض أن كل ما هو “طبيعي” جيد وآمن، وكأن الزرنيخ وسموم الأفاعي والعقارب ليسوا مواد طبيعية! أو مغالطة الاحتكام إلى السلطة (appel à l’authorité )، حيث يتم تصديق أي شخص فقط لأنه “دكتور” أو “شيخ” دون النظر في تخصصه أو الأدلة التي يقدمها.
ما يغذّي هذه الظاهرة في السياق المغربي هو مزيج معقد من العوامل: ضعف جودة التعليم، انتشار الأمية الوظيفية، غياب التكوين في المنطق والتفكير العلمي، ضعف الإعلام العلمي، وقبل ذلك كله الأزمة الاقتصادية التي تدفع البعض إلى التمسك بأي بصيص أمل، حتى لو جاء على يد مشعوذ يبيعهم الوهم. فالفقر، وانعدام التغطية الصحية، وغلاء الأدوية، كلها عوامل تدفع الإنسان العادي إلى تصديق المعجزات الزائفة، لأن الطب الحقيقي مكلف، بارد، ومليء بالتعقيدات، في حين أن خطاب العلم الزائف يبدو دافئًا، بسيطًا، ويَعِد بنتائج سريعة دون معاناة. إنها تجارة مربحة للعقول الكسولة والجيوب الفارغة.
كل هذا يجعل من الضروري أن نعيد التفكير في طريقة تعاملنا مع المعلومة. التعليم وحده لا يكفي إذا لم يكن مرفوقًا بتكوين منهجي في التفكير النقدي، وتعليم الناس كيف يُفكرون، لا فقط ماذا يُفكرون. نحن في أمسّ الحاجة إلى ترسيخ ثقافة الشك المنهجي، والتعود على طرح الأسئلة بدل أخذ الأشياء كمسلمات، وتشجيع الناس على التحقق من المصادر، والتمييز بين الأدلة والآراء. العلم ليس فقط معادلات أو مختبرات، بل هو طريقة في التفكير والتساؤل والاختبار المستمر للواقع. المجتمعات التي لا تملك هذه المناعة الفكرية تكون أكثر عرضة للانزلاق نحو الخرافة، ويكفي أن نرى كيف أن قرارات مصيرية في الصحة أو الاقتصاد يمكن أن تتأثر بمعلومة مضللة منتشرة على “فيسبوك” أو “واتساب”.
في النهاية، مواجهة العلم الزائف لا تتطلب فقط محاربة المحتوى المغلوط، بل بناء جيل جديد يُحسن استخدام العقل، ويعرف أن لا شيء يجب أن يُصدّق فقط لأنه “يُقال كثيرًا” أو “يُقال من طرف شخصية معروفة”، بل لأن وراءه دليلًا، ومنطقًا، وتجربة قابلة للتحقق.