كيف يمكن للإنسانيات أن تتطور في زمن التحوّلات؟
في عالم تتسارع فيه التحولات التقنية وتعلو فيه نبرة العلوم الدقيقة والتطبيقية، تبرز العلوم الإنسانية والاجتماعية حقلا معرفيا يحاول أن يستعيد مركزية الأسئلة الكبرى حول الإنسان، والمجتمع. ليست هذه العلوم اليوم مجرّد حقولٍ معرفية قائمة بذاتها، فقدْ بات التفكير فيها يتمّ فيها باعتبارها أفقًا نقديًا ومنهجيًا لفهم العالم المعاصر، ومساءلة مستمرة لنموذج الحداثة نفسه بما أنتجه من تصدعات ثقافية، ولامساواة، وأزمات، وجودية، وهي بذلك تقع في صلب النقاشات الكبرى حول مصير الجامعة، ومستقبل البحث العلمي، وحدود المعرفة.
جاء فتح أكاديمية المملكة المغربية لأفق التفكير في راهنية العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعة المغربية، عبر تنظيم مناظرة وطنية، تعبيرًا عن إدراك عميق لتحوّل سؤال المعرفة من شأن أكاديمي صرف إلى رهان مجتمعي واستراتيجي. ففي زمن تُعلي فيه السياسات العمومية من مؤشرات النجاعة التقنية وتضيق فيه المساحات المخصصة للفكر النقدي، تصبح العودة إلى هذه العلوم نوعًا من إعادة الاعتبار للبعد التأويلي في فهم المجتمع، ولقدرة الإنسان على مساءلة ذاته وتاريخه ومستقبله. لذلك، لم يكن تنظيم تلكَ المناظرة مجرد استجابة ظرفية، كان فعلًا مؤسسيًا يستهدف مساءلة البنية المعرفية التي تستند إليها مشاريعنا الأكاديمية والثقافية: فما هي المعايير التي تحدد علومنا الإنسانية؟ وهل تسهم هذه العلوم في فهم الإنسان والمجتمع، أم أنها تكرار لنماذج مغتربة عن سياقاتنا؟ كيف نعيد صياغة مشروعنا المعرفي ليعترف بغنى وتنوع تجاربنا الثقافية، ويُتيح للإنسان دورًا فاعلًا في إنتاج المعرفة؟ وهل نمتلك الشجاعة الفكرية لتحدي الهياكل القديمة وإطلاق حوار نقدي مستمر يُثري فهمنا للعالم والذات؟
ليست مناظرة العلوم الإنسانية والاجتماعية التي صدرت أعمالها مؤخرا ضمن منشورات أكاديمية المملكة المغربية (2025) مجرد تقييم مرحلي أو تقرير تقني، بل إنها دعوة ملحة للتأمل في مكانة المعرفة في المغرب، ودعوة إلى تأسيس رؤى معرفية جديدة تُجسّد روح العصر وتحترم خصوصياتنا الثقافية والاجتماعية، بهدف تحقيق تفاعل حيوي بين النظرية والتجربة، بين التقليد والحداثة، وبين الإنسان والمجتمع. وقد تأكد لي ذلك بعد اطلاعي المتأني على أعمال هذه المناظرة، التي تجاوزت في مجملها حدود الطرح التقليدي للأسئلة، وانفتحت على أفق جديد من التفكير والمعرفة. فقد عكست المداخلات عمقًا نقديًا ملهمًا، أبان عن الحاجة الملحة إلى إعادة تأسيس مشروع معرفي يراعي خصوصياتنا الثقافية والاجتماعية، ويعيد للإنسان موقعه المركزي في العملية العلمية. لقد كان هذا الاطلاع بمثابة تأكيد على أن المناظرة لم تكن مجرد حدث عابر، بل لحظة تأسيسية فارقة وضعتنا أمام رهانات كبرى وفرص حقيقية لتجديد العلوم الإنسانية والاجتماعية، من خلال حوار جاد ومتواصل يعيد صياغة علاقتنا بالمعرفة والعالم.
من “العلوم عن الإنسان” إلى “العلوم مع الإنسان”
دفعتني قراءة أشغال هذه المناظرة إلى التساؤل في وظيفة الجامعة ذاتها: هل هي مؤسسة لإنتاج المهارات، أم فضاء للتكوين النقدي المتجذر في الأسئلة المجتمعية والكونية؟ لا تقف العلوم الإنسانية، في هذا السياق، عند تخوم التحليل النظري، بل تشتبك مع قضايا الهوية، والسلطة، والعدالة الاجتماعية، والتحولات الرمزية للواقع. وتُعتبر بذلك طرفًا فاعلًا ومسهما في بناء جامعة تعي تعقيد الظواهر، ولا تختزل المعرفة فيما هو قابل للقياس أو التصنيف الكمي.
نعلم جميعا أن التحوّلات البنيوية في المجتمعات المعاصرة قد أفرزت سياقًا معقدًا يتعذّر تحليله ضمن النماذج الاختزالية أو الصيغ التفسيرية المألوفة في العلوم الصلبة. فالتحولات التي مست بُنى الإدراك الجماعي، مثل تراجع الفضاء العمومي بوصفه حيزا للتداول العقلاني، وانكماش ثقة الأفراد في المؤسسات الوسيطة، ليست مجرد ظواهر سطحية، إنها على العكس من ذلك علامات على إعادة تشكّل العلاقة بين الفرد والجماعة، بين السلطة والمعنى، وبين المعرفة والواقع. من هذا المنظور، تبرز العلوم الإنسانية والاجتماعية باعتبارها ضرورة معرفية تُسائل الأسس الرمزية والتأويلية التي ينبني عليها الفعل الاجتماعي. فالنموذج المعرفي القائم على القياس، والتجريد، والمحاكاة المختبرية، وإن كان ناجعًا في مجالات بعينها، يظل عاجزًا عن النفاذ إلى الطبقات العميقة للوعي الجمعي، وإلى منطق المعاني الضمنية الذي يُنتج السلوك والتصور. من هنا تكتسب الأنثروبولوجيا، والسوسيولوجيا النقدية، والفلسفة التطبيقية قيمتها المعرفية؛ لأنها تشتغل على التوتر بين المعيش واليومي، بين القول والفعل، بين الذات والآخر، وتتيح قراءة متعددة المستويات للظواهر في ضوء التاريخ، واللغة، والرمز، والبنية.
بهذا المعنى، فإن تجديد النظر في العلوم الإنسانية والاجتماعية لا يعني مجرد تحديث لأدواتها وتصوراتها ومناهجها، إنه بالأحرى إعادة تفكير في مشروعيتها الإبستمولوجية، وفي قدرتها على بلورة مفاتيح لفهم عالم لم يعد يفهمُ فقط من خلال الأنظمة والمؤسسات، وإنما أيضًا من خلال التصورات، والانفعالات، والمتخيل الاجتماعي.
من هذا المنطلق، تؤكد العديد من الأبحاث اليوم أن الفكر الإنساني المعاصر يتجه نحو تجاوز النزعة التجزيئية إلى بلورة ما أضحى يُعرف بالنموذج “ما بعد التّخصصي”، حيث يتم تخطّي الحدود الصارمة بين الحقول العلمية، لبناء مقاربات هجينة تتفاعل فيها المعرفة النقدية مع الأدوات الرقمية، والتقنية، والإحصائية لفهم العالم المركب. من هنا، تكتسب مقاربات مثل “العلوم الاجتماعية الرقمية”، و”الأنثروبولوجيا الحضرية الجديدة”، و”الدراسات متعددة الأنظمة الرمزية” أهمية متزايدة في الأوساط الجامعية؛ إنها توجهات تُعبر عن الرغبة في إعادة ربط الإنسان بسياقاته المادية، والرمزية، والافتراضية؛ كما أن مشروع العلوم الإنسانية لم يعد مقتصرا على النقد، بل صار معنيًا أيضًا ببناء بدائل معرفية جديدة. فالفكر ما بعد الكولونيالي، والنظرية النّسوية، ودراسات الجنوب العالمي، كلها مجالات تسعى إلى تفكيك مركزية المعرفة الغربية، وتحرير الجامعة من هيمنة النموذج الإمبيريقي-الوضعاني. يعكس هذا التحول من “العلوم عن الإنسان” إلى “العلوم مع الإنسان” رغبة عميقة في بناء علم لا ينظر إلى الموضوع من خارجه، بل يتفاعل معه باعتباره جزءًا من ذات باحثة منخرطة في العالم.
في ضوء ذلك، أصبحت الجامعة فضلا عن أدوارها في إنتاج الكفاءات التقنية مطالبة بإعادة تشكيل علاقتها بالمجتمع. لذلك، تفتح العلوم الإنسانية أفقًا معرفيًا ضروريًا لفهم الظواهر الاجتماعية الدقيقة التي غالبًا ما تظل غير مرئية في المقاربات الكمية أو الإجرائية، مثل العنف الرمزي، والذاكرة الجماعية، والتراتبيات اللغوية، والثقافية. كما تتيح هذه العلوم إمكانية الإسهام في بلورة سياسات عمومية تنبني على فهم عميق ومتشابك للواقع، يأخذ بعين الاعتبار البُعد الرمزي والتاريخي والاجتماعي للظواهر، بدل الاكتفاء بمؤشرات رقمية قد تفتقر إلى الدلالة السياقية والعمق التأويلي. وقد بيّنت التقارير الدولية، وعلى رأسها تقرير “مستقبل التعليم العالي” الصادر عن اليونسكو (2022)، أن العلوم الإنسانية ليست فقط وسيلة لفهم الماضي، بقدر ما هي أداة لصياغة مستقبل أكثر إنصافًا وعدالة، بكونها توفّر أفقًا لتربية الأجيال القادمة على التفكير النقدي، والاختلاف، والتعدد، بدل الاستهلاك المعرفي والانخراط غير الواعي في الأنظمة التقنية المغلقة.
أن نفكر في الممكن: من التلقين إلى الإبداع
تكمن إحدى المهام الأساسية لهذه العلوم اليوم وكما عرضت لها أعمال مناظرة أكاديمية المملكة المغربية في مساءلة حدود التقنية، لا من منظور رافض أو معادٍ، بل من خلال تفكيك آثارها الثقافية، والأنطولوجية، والإيتيقية. لم يعد ممكنًا اليوم مقاربة قضايا كبرى مثل الذكاء الاصطناعي من منظور تقني صرف أو من خلال علوم البيانات وحدها؛ فهذه الظاهرة تطرح أسئلة جوهرية حول الوعي، واتخاذ القرار، والسلطة، والهوية – وهي مفاهيم مركزية في صلب انشغالات العلوم الإنسانية. على نحو مماثل، تكشف تحديات العصر، مثل التحولات المناخية، وانتشار الأوبئة، وتنامي حركات الهجرة، عن الحاجة الملحة لفهم أبعادها الثقافية والمعرفية، بما يتجاوز التحليل الكمي أو المقاربات التقنية. يتطلب التعامل مع هذه الظواهر إدماج البعد الإنساني والتأويلي، بما يسمح بقراءة أعمق للمعنى الذي تحمله في حياة الأفراد والمجتمعات، وفهمٍ أوسع لكيفية تفاعل الإنسان مع المتغيرات الكبرى التي تحيط به.
من هذا المنظور، تغدو الجامعة مرآة للمجتمع: فإذا انغلقت على التقنيات دون سؤال نقدي، فإنها تتحول إلى مؤسسة لإعادة إنتاج الامتثال. أما إذا انفتحت على الفكر، والسرد، والتأمل، فإنها تُعيد تأسيس مشروع الحداثة على أرضية إنسانية. ومن هذا الموقع، تُمثل العلوم الإنسانية والاجتماعية اليوم فرصة لإعادة التفكير في الذات، والمجتمع، والعالم، على نحو يؤسس لتربية تتجاوز المهارة نحو الوعي.
إن فكرة “الجامعة المتأملة” التي اقترحها المفكر الألماني يورغن هابرماس، تعيد الاعتبار لدور التفكير باعتباره شرطا لبناء مواطنة نقدية، قادرة على مساءلة الخطابات السياسية والإعلامية، وفهم تحوّلات السلطة والتمثيل.
لا يُبنى علمٌ على الصَّمْت، بلْ على الجُرأة في التَّساؤُل
نعمْ… منطق العلم قائم على الشّك والسّؤال، لا على التَّسليم واليَقين؛ على أن ما يجعل حضور هذه العلوم بأسئلتها ضرورة في البحث الجامعي المعاصر، هو قدرتها على إعادة طرح الأسئلة الكبرى التي تجاهلتها أنظمة التعليم التقني: ما العدالة؟ من يروي التاريخ؟ ما معنى أن يكون للغة سلطة؟ كيف نفكر في الذاكرة في زمن الرقمنة؟ كيف نعيد وصل الجسد بالمعنى في أنظمة صحية باتت تتعامل مع الإنسان بوصفه معطى بيولوجيا فقط؟ مجمل هذه الأسئلة وسواها لا تجد جوابها في الرياضيات أو الفيزياء فقط، وإنما أيضا في حقل العلوم التي تحلل الإنسان من حيث هو ذات، وتاريخ، ووجدان.
لا أبتغي من الملاحظة السابقة الدفاع عن حقل أكاديمي في مواجهة آخر، وإنما لفتَ الانتباه إلى ضرورة إعادة صياغة معنى الجامعة نفسها، بوصفها فضاءً متعدّد المرجعيات، يَسَع الصراع الخصب بين مناهج مختلفة، ويوفّر أدوات لتحويل العالم لا مجرد وصفه. بهذا المعنى، لا تشتغل والعلوم الإنسانية والاجتماعية داخل قاعات مغلقة، وإنما تفتح أفقًا جديدًا للبحث من داخل الحقول المجتمعية، وفي الشارع، والمتحف، والفضاءات الرقمية، والذاكرة الشعبية.
تُعيد العلوم الإنسانية والاجتماعية للجامعة صوتها بوصفها ضميرًا فكريًا واجتماعيًا. إنها علوم مقاومة بامتياز، تعمل على صياغة أفق جديد للعيش، يقوم على الفهم، والاعتراف، والمشاركة، والتعدد، ولذلك فإنّ الاستثمار فيها ليس دفاعًا عن الماضي، بقدر ما هو رهان على المستقبل:
ما الذي تبقى من العلوم الإنسانية والاجتماعية في زمن تشيئ الإنسان وهيمنة الخوارزميات؟ وهل ما زال بإمكانها أن تمارس وظيفتها الأصلية: أن تُنقذ المعنى من الاستهلاك، والذاكرة من النسيان، والهوية من التنميط؟ كيف يمكن لعلم الاجتماع أن يصوغ تأويلًا للعيش المشترك حين تتفتت الروابط، وللأنثروبولوجيا أن تلتقط صوت الجماعات المهمشة في زحمة العولمة، وللفلسفة أن تُعيد تركيب الأسئلة حين تُختزل القيم في الكفاءة والمردودية؟ هل ما زال للغة مكانٌ في عالمٍ تُدار فيه المشاعر بالبيانات، وتُبرمج فيه العلاقات بذكاء اصطناعي؟ وهل تملك الجامعة اليوم ما يكفي من الشجاعة الفكرية لتفتح نوافذها لهذه العلوم، لا بوصفها ملحقًا ثقافيًا، بل بوصفها أداة لرؤية ما لا يُرى، وفهم ما لا يُفهم، وإعادة صياغة ما يُعتقد أنه محسوم؟ ثم، ما الجدوى من التفكير النقدي إن لم يكن يوقظ الوعي بالهشاشة النبيلة للإنسان، ويمنحنا الجرأة على إعادة السؤال عن الزمن، والمكان، والسلطة، والآخر؟ وهل يمكن لهذه العلوم، وهي تواجه تقليصًا “ممنهجًا” في وضعها داخل الحقول الأكاديمية، أن تتحول إلى مقاومة ناعمة تنحت من الفكر دربًا لفهم الذات والعالم؟
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.