على ضوء تغيّر خرائط التحالفات الدولية وتلاشي السرديات الإيديولوجية أمام هاجس البحث عن المصالح تُعيد العديد من الدول الإفريقية رسم سياساتها الخارجية وطريقة تعاطيها مع القضايا الإقليمية الحساسة، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية، التي لم تعد تُقرأ بعدسة الصراع الكلاسيكي، بل بعدسة الأولويات والتحولات الجيوسياسية التي تفرض البحث عن شراكات فعّالة وموثوقة تخدم قضايا التنمية والاستقرار.
ويكشف موقف جمهورية كينيا الجديد، الذي عبّرت من خلاله عن دعمها مبادرة الحكم الذاتي باعتبارها الحلّ الأكثر واقعية لتسوية النزاع في الصحراء، بعدما كانت من أكبر داعمي الطرح الانفصالي، حسب مهتمين، عن وجود توجه إفريقي نحو تبنّي سياسات جديدة عنوانها الواقعية السياسية والانفتاح البراغماتي، من خلال إجراء مراجعات جذرية للمواقف السياسية بما يتماشى مع مصالح الدول الإستراتيجية وطموحات شعوبها، مدفوعًا بوعي سياسي متنامٍ بضرورة القطع مع التحيز الإيديولوجي، الذي دفعت القارة السمراء ثمنه غاليًا لعقود من الزمن.
قناعة سياسية ونموذج مغربي
في هذا الصدد قال محمد الغيث ماء العينين، عضو المركز الدولي للدبلوماسية وحوار الحضارات، إن “مراجعة مجموعة من البلدان الإفريقية، آخرها كينيا، مواقفها السياسية تجاه النزاع في الصحراء، نتيجة طبيعية لتطور الموقف الدولي بهذا الشأن، والاقتناع باستحالة تحقق الطرح الانفصالي، إضافة إلى سياسة الانفتاح المغربي على دول القارة، التي ساهمت في مراجعة العديد من الدول التي كانت متأثرة بالبروباغندا الجزائرية والجنوب إفريقية مواقفها”.
وأوضح ماء العينين، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “المغرب نجح في إقامة علاقات شراكة مع دول إفريقيا الشرقية، التي كانت تُعد امتدادًا لسياسات جنوب إفريقيا، التي تراجع دورها القاري لصالح المغرب، وفقد خطابها السياسي، وكذا الأخلاقي، الكثير من مصداقيته، خاصة في ظل السياسات العنصرية ضد المواطنين البيض في هذا البلد”.
وأكد المتحدث ذاته أن “الرباط تقطف ثمار توجهاتها وسياساتها التعاونية مع إفريقيا، التي تكرست بشكل كبير منذ عودتها إلى الاتحاد الإفريقي، ما ساهم في إقامة علاقات مبنية على المصالح والاحترام المتبادل مع العديد من الدول، التي لم ترفض التعاون معها رغم مواقفها السلبية من قضية الوحدة الترابية للمملكة”.
وأبرز المحلل نفسه أن “المغرب أصبح نموذجًا ناجحًا للتعاون، إذ سبق للملك محمد السادس أن أكد أن المملكة أتت بنموذج جديد للتعاون مع إفريقيا، بعيدًا عن منطق الأستاذية، أو منطق المساعدات والإعانات مقابل المواقف”، وزاد: “ثم إن العديد من دول القارة نفسها لم تعد تريد المساعدات، بل تبحث عمّن يستثمر معها، ومن يطوّر معها شراكات على أساس مبدأ رابح – رابح”.
نهج براغماتي واندماج اقتصادي
في سياق ذي صلة اعتبر محمد عطيف، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، أن “التحول الذي شهدته مواقف عدد من بلدان القارة الإفريقية كان نتيجة التقاء العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والأمنية، التي فرضت على هذه الدول تبنّي نهج براغماتي في إدارة سياستها الخارجية، وفي تصريف مواقفها تجاه القضايا الإقليمية الحساسة”.
وأضاف عطيف أن “البلدان الإفريقية بدأت تتخلص تدريجيًا من النزعة الإيديولوجية التي كانت سائدة حول قضية الصحراء في فترات ما بعد الاستقلال، وبُنيت على دعم حركات التحرر”، مبرزًا أن “هذه النزعة الإيديولوجية لم تعد تتماشى الآن مع مختلف التحولات التي تشهدها الساحة السياسية العالمية والإقليمية، ومع الأولويات التنموية والاقتصادية الوطنية للدول”.
وتابع المتحدث ذاته بأن “الموقف الكيني الجديد الداعم لمخطط الحكم الذاتي في الصحراء يمكن قراءته على ضوء سعي نيروبي إلى التموقع إقليميًا، وتعزيز دورها كقوة محورية في شرق إفريقيا، من خلال استغلال الفرص الاقتصادية التي يوفرها التعاون مع الدول الوازنة في القارة، ومن ضمنها المملكة المغربية”، مسجلًا أن “صُنّاع القرار الكينيين باتوا يقاربون علاقتهم الخارجية بمنطق الربح، وليس بمنطق الاصطفافات المجانية، وانتقلوا من منطق التضامن السياسي إلى منطق المصالح المتبادلة”.
وأورد الأستاذ نفسه أن “الحضور المغربي في إفريقيا، من خلال الاستثمارات والدبلوماسية المرنة، يعطي حوافز موضوعية للدول الراغبة في إعادة تشكيل شراكاتها وتعزيز اندماجها في الاقتصاد الإفريقي”، معتبرًا أن “البراغماتية التي تبنّتها كينيا، وقبلها العديد من الدول، تعكس تغيرًا في تصورها لدورها على الساحة الإفريقية، إذ لم تعد الشرعية السياسية للدول تُبنى فقط بالخطاب التحرري، بل على قدرتها على تحقيق التنمية وجلب الاستثمارات”.
وفي المقابل خلص متحدث هسبريس إلى “وجود تحديات أمام التوجه البراغماتي للدول الإفريقية، إذ من الممكن أن يؤدي إلى إضعاف قدرة منظمة الاتحاد الإفريقي على اتخاذ مواقف موحّدة حول القضايا الكبرى في القارة، كما يمكن أن يزيد من الهشاشة المؤسسية أمام التأثيرات الخارجية”، خاتما: “كما أن تغليب منطق المصالح القُطرية قد يُضعف قدرة إفريقيا على التفاوض الجماعي مع الشركاء الدوليين، غير أنه يمكن التغلب على هذه التحديات بتنسيق المصالح والدفع نحو التكامل الشامل”.