“ندوات مجانية للجميع” سينظِّمُها معهد الدراسات العليا للتدبير “HEM” بشراكة مع منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) مع 4 جامعات عمومية، وفي رحابِ مدرّجاتها، على مدار أكثر من شهر (بين 20 ماي الجاري و26 يونيو المقبل)، أُعطيَت، اليوم الاثنين بالرباط، فعالياتُ إطلاقها الرسمي تحت اسم “جامعة المعارف الجديدة” (l’Université des Nouveaux Savoirs).
حسب القائمين عليه، فإن مشروع ندوات جامعة المعارف الجديدة يستهدف “دمقرطة المعرفة” ونشرها في سياق عالمي يتسم بالتحولات التكنولوجية والجيوسياسية المتسارعة، فضلا عن تغيرات بيئية واجتماعية وبين-جِيليّة.
“ديمقراطية المعرفة”
المداخلة الرئيسية خلال افتتاح الحدث ألقتْها أمل الفلاح السغروشني وزيرة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، وهي إحدى الخبيرات المغربيات المشهود لهن دوليا في مجال الذكاء الاصطناعي والرّقميات، التي أشادت، في تصريح لهسبريس، بـ”إطلاق هذه المبادرة الطيّبة لنشر المعارف الجديدة ومواكبة تحولات العصر، ولفائدةِ جمهور واسع متعدد الفئات العمرية والمهنية وكذا متنوع الاهتمامات والتخصصات(…)”.
وقالت الوزيرة الفلاح السغروشني، ضمن مداخلتها بمناسبة إطلاق جامعة المعارف الجديدة، اليوم الاثنين، متناولة “الانتقال الرقمي والمعارف الجديدة”، إن الأخيرة “تتضمن التحول، على وجه الخصوص، وهو في قلب هذا التحول”، شارحة: “لقد غيَّر أساليبَنا في العمل والتعلّم والإنتاج والتواصل. وأعاد تعريف المهن والمهارات وحتى علاقتنا بالعالم؛ ولكن لِيَكون هذا التحول مُحفِّزا للتقدم والاندماج، لا بد من تكوين وتوعية وإشراك جميع فئات المجتمع”.
وأضافت: “نحن نعيش في زمن تحوّل سريع، تقوده الرقمنة، والذكاء الاصطناعي، وتغيّرات اجتماعية وجيليّة متسارعة. وأمام هذه التحولات، لمْ يعُد الولوج العادل إلى المعرفة وفهم القضايا المعاصرة ترفا؛ بل أصبح حقا أساسيا، وأداة للتنمية المستدامة(…) وهذا بالضبط ما تقترحه “جامعة المعارف الجديدة” من خلال: “ديمقراطية المعرفة، انفتاح بين الأجيال والتخصصات، تعبئة جماعية حول قضايا المستقبل”.
ونوهت وزيرة الانتقال الرقمي بهذا المشروع، الذي وُلد من تعاون نموذجي بين “HEM” و”الإيسيسكو” وعدد من المؤسسات الوطنية والدولية، بوصفه “يُجسد استجابة طموحة وضرورية للتحولات التي يشهدها عالمنا وبلدنا”، حسب تعبيرها.
“جامعاتٌ فاعلة وخالقةٌ للمعنى”
ليست هذه الجامعة مجرد استجابة لتسارع التغيرات التكنولوجية، بل جسرٌ بين العالم الأكاديمي والمجتمع والتحولات الرقمية الجارية”، أوردت السغروشني مبرزَة أنه “من خلال هذه المبادرة، فالجامعات فاعلةٌ في التحول الرقمي، لا كمستهلكة للتكنولوجيا فقط، بل كقوة نقدية، شاملة، وخالقة للمعنى”.
وفي تقدير الوزيرة: “لقد أصبحت للجامعات، اليوم، مهمة جديدة: تعليم المهارات الرقمية؛ ولكن أيضا غرس الفكر الأخلاقي، والتفكير المعقّد، وكذا التربية على المواطنة الرقمية”، ضاربة المثال بأن “معرفة البرمجة مهارة، لكن معرفة لماذا ولمَنْ نُبرمج، فهي مسؤولية”.
واسترسلت المتحدثة أمام جمعٍ من الباحثين المغاربة والأجانب وطلبة تخصصات الهندسة والأعمال بالرباط، مؤكدة: “إن التحول الرقمي يُحدث تغييرات عميقة في مجتمعاتنا واقتصاداتنا وأنماط الحياة؛ ما يتطلب أكثر من مجرد تأقلم تقني، بل يحتاج إلى فهم جديد للعالم”.
واعتبرت أن هذا السياق فيه تأتي “جامعة المعارف الجديدة” كـ”فضاء مفتوح، شامل، وملتزم. إنها تجمع بين الباحثين، الطلبة، المواطنين، والمؤسسات حول هدف مشترك: إعطاء معنى للتحول الرقمي، من خلال إبراز معارف متعددة التخصصات، نقدية، ومتاحة”.
كما “تعزز هذه المبادرة دور الجامعات كفاعلين رئيسيين في التغيير، وتساهم في بناء مواطنة رقمية واعية، قادرة على التحكم في الأدوات وطرح تساؤلات حول غاياتها واستعمالاتها وتأثيرها على الإنسان والمجتمع”، وفق المسؤولة الحكومية التي حيّتَ ختاما “التزام جميع الشركاء، خصوصا الجامعات العمومية المغربية والمعهد الفرنسي بالمغرب ومؤسسة ‘هاينريش بول’ الذين يشاركون في هذا المشروع، مع تنويه خاص بـ”دعمها لهذا النهج المفتوح والمتنقل للمعارف”.
“كيف نحدد المعارف الجديدة؟”
من جهته أشار الأستاذ الباحث إدريس كسيكس، العميد المشارك للبحوث والابتكار الأكاديمي في معهد “HEM”، إلى ما تثيره “المعارف الجديدة من تساؤلات؛ أبرزها “كيف نحدد المعارف الجديدة؟”، ضاربا مثال الذكاء الذي نبع أساسا “انطلاقا من الحاجيات الاقتصادية والصناعية”.
بهذا الشأن أبرز أن “الذكاء الاصطناعي لا محيد عنه؛ لكن في مقابل الحاجات المتزايدة إليه؛ تنبُع المخاطر خاصة البيئية والمجتمعية والجيليّة… منبها إلى أنه “يُحدث قطيعة مفاهيمية–إبستمولوجية عبر براديغمات جديدة في مجالات البحث والمعرفة والتعلمات الجامعية”.
كما أثار الأكاديمي ذاته ما وصفها “الحاجة إلى فهم التعقيدات القائمة” كأحد الرهانات الكبرى للمعارف الجديدة”، خاصة أن ذلك “يستوجب خبرات بالنسبة لهيئات الحكامة والفاعل الحكومي”، مشددا على “توسيع وتطوير الوعي وتحرير الطاقات والأذهان”.
في حديثه عن “المعارف”، قال كْسيكس إنّها تتطلب أيضا طرح سؤال: “هل المطلوب كفاءات تقنية أم رفع تحديات تفرض إعادة تجديد نموذجنا للتفكير والفهم؟”، ضاربا أمثلة “البيانات الضخمة وأثرها البيئي…”، و”رهانات سياسة المدينة المستدامة في علوم التعمير والهندسة”.
وختمَ كسيكس مجمِلا: “واجبُنا المواطناتي هو استدراك الكل والتحولات المتسارعة تكنولوجيا وجيوسياسيا خاصة، والمجتمعية عامّة.. إنه التزامٌ أخلاقي من طرفنا، فنحنُ جامعةٌ خاصة بمسؤولية عمومية”.
“الثقة في المستقبل”
لفت قيس الهمامي، مدير “مركز الإيسيسكو للاستشراف الاستراتيجي والذكاء الاصطناعي”، إلى أهمية “مواكبة الأخير وتحوُّلاته في ظل سيولة الزمن بين مكتسبات الماضي، تحولات الرّاهن/الحاضر وآفاق المستقبل”.
وقال الهمامي، في كلمة له، إنّ “جامعة المعارف الجديدة تستلهمُ تاريخ العلوم والمعارف من خلال مبادرةِ فاطمة الفهري لتأسيس واحدةٍ من أقدم الصروح المعرفية ‘جامعة القرويين” في مدينة فاس”، منوها إلى ضرورة مواكبة المحاضرات المبرمجة من لدن 15 خبيرا وباحثا وأستاذا مغربيا وأجنبيا في شرح وتفكيك التحولات الراهنة، واستخلاص دروس لآفاق المستقبل”، داعيا إلى الثقة في هذا الأخير بحكم أنه يحمل تحولات عديدة خاصة مع “ظهور مِهن جديدة واختفاء أخرى قديمة بسبب تسارع تطورات التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي”.
يشار إلى أن النسخة الأولى من سلسلة ندوات “جامعة المعارف الجديدة” ستهمّ جامعات محمد الخامس بالرباط وجامعة الحسن الأول بسطات وجامعة ابن طفيل بالقنيطرة وجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء”. وستتطرق الموضوعات المختارة إلى “إتاحة المعرفة المعقدة” للعموم في مجالات حيوية؛ مثل “التكنولوجيا الرقمية والبيئة والذكاء الاصطناعي” و”التغير المجتمعي وتحولات مجالات العمل”، بمتحدثين بارزين مغاربة وأجانب، وبرمجة “غنيّة وشاملة ولامركزية”، وفق المنظمين.