بعد ما يقرب من قرن على صدوره بلغته الأصلية صدرت مؤخرا الترجمة العربية لكتاب “فرنسا وإسبانيا وحرب الريف”، للكاتب والصحافي الإنجليزي والتر هاريس، الذي عاش أغلب حياته في المغرب، وبخاصة في مدينة طنجة. وهذه الترجمة هي رابع عمل للباحث والمترجم حسن الزكري، وثالث كتاب يترجمه لوالتر هاريس بعد ترجمته كتابي “المغرب الذي كان”، و”أرض سلطان إفريقي”، اللذين صدرا عن مركز جسور للدراسات التاريخية والاجتماعية.
ولد والتر هاريس عام 1866 في لندن، وبدأ حياة الترحال منذ أن كان في الثامنة عشرة من عمره، حيث زار العديد من البلدان قبل أن يستقر به المُقام في المغرب سنة 1887، وذلك حين قام بمرافقة بعثة الوزير المفوض البريطاني وليام كيربي كرين إلى السلطان الحسن الأول في مراكش. ومنذ ذلك اليوم اختار الاستقرار بمدينة طنجة، حيث عمل مراسلاً لصحيفة التايمز خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين.
قضى هاريس أغلب فترات حياته في المغرب، وحظي -بالفعل- بمكانة رفيعة وسط المجتمع الطنجي، مع أنه كان يقطن في فيلا في أطراف المدينة؛ وبعد تعرضه هناك لمحاولة اختطاف ثانية باءت بالفشل (بعد قصة اختطافه الشهيرة على يد الريسوني)، قرر مغادرة الفيلا والانتقال للعيش في قلب طنجة، حيث قضى بقية عمره.
واحتل هاريس موقعاً مؤثراً في الرؤية البريطانية -والغربية بشكل عام- لمغرب ما قبل الاستعمار أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كما كان شاهد عيان على وقائع فرض الحماية الفرنسية والإسبانية، وصديقاً مقرباً من آخر سلطانين حكما المغرب المستقل، وكانت تربطه في الوقت نفسه علاقة وطيدة بالغريم اللدود للنفوذ السلطاني في شمال المغرب أحمد الريسوني، كما شارك في الاتصالات التي تمت بين زعيم المقاومة الريفية محمد بن عبد الكريم الخطابي والفرنسيين والإسبان خلال المراحل الأخيرة من حرب الريف؛ وكان يرتبط أيضا بعلاقة ودية مع مهندس الحماية الفرنسية في المغرب المارشال هوبير ليوطي، وكذا بمسؤولي وزارة الخارجية البريطانية وبالعديد من المسؤولين والموظفين الكولونياليين.
وسرد هاريس انطباعاته عن الشؤون المغربية في سلسلة من المذكرات والتقارير الخصوصية التي كان يبعثها إلى صحيفة التايمز، كما دَوَّن ارتساماته حول المغرب والمغاربة وأخبار رحلاته وجولاته في البلد في عدة كتب مطولة، لعل أبرزها كتاب “المغرب الذي كان”، الذي نُشِر عام 1921، وتُرجم إلى اللغة العربية قبل بضع سنوات. أما كتاب “أرض سلطان إفريقي” الذي بين أيدينا، فقد نُشر عام 1889، وهو كتابه الأول عن بلاد المغرب، ويُعد من بين أبرز أعماله.
توفي هاريس سنة 1933، ودفن في كنيسة القديس أندرو بطنجة.
ويقع كتاب “فرنسا، إسبانيا والريف”، في ثلاثة عشر فصلا. يستعرض المؤلف في فصوله الأولى النزاع الأوروبي حول المغرب قبل فترة الحماية، ولاسيما بين فرنسا وإنجلترا، ويركز بصفة خاصة على الاتفاق الذي جرى بينهما سنة 1904، الذي يعرف بالاتفاق الودي، لأنه “يتضمن أساس جميع الترتيبات والمعاهدات والاتفاقيات اللاحقة التي تُعَين أو تُعدل مناطق نفوذ فرنسا أو إسبانيا (في المغرب) …”، على حد تعبير المؤلف.
بعد ذلك يقدم هاريس نبذة عن منطقة الريف وجغرافيتها وتاريخها، وخصائص سكانها وطبائعهم، وأعرافهم وتقاليدهم، وأنماط حياتهم، وعلاقتهم بالسلطات؛ ثم يتناول بالذكر التدخل الإسباني شمال المغرب، وفي الريف على وجه الخصوص، متطرقا للمصاعب التي واجهت الإسبان أثناء توغلهم هناك، التي توجت بفاجعة أنوال على يد محمد بن عبد الكريم الخطابي وما تلاها من تبعات.
بعد ذلك يوجه الكاتب اهتمامه لمنطقة جبالة، مستعرضا تاريخها وطبائع أهلها، وعلاقتهم بالإسبان، وسياسة هؤلاء حيالهم وحيال زعيمهم الأشهر الريسوني، التي تراوحت بين المدافعة والمهادنة؛ ثم يتطرق لحصار شفشاون من قبل الريفيين والجهود التي قام بها الإسبان لفك الحصار عنها والانسحاب منها والخسائر التي تكبدوها في هذا السبيل.
ثم يختتم المؤلف هذه الفصول بذكر الإنزال الذي قامت به القوات العسكرية الإسبانية بقيادة الجنرال بريمو دي ريبيرا، والجنرال خوسي سانخورخو، وبدعم فرنسي، في 8 شتنبر 1925، بساحل الحسيمة، في الريف، بهدف حسم الحرب، وهو الإنزال الذي يعتبر الأول من نوعه في التاريخ العسكري.
في الفصول التالية يتطرق هاريس لبداية التدخل الفرنسي في المغرب، ولتوقيع معاهدة الحماية سنة 1912، وتعيين المارشال ليوطي كأول مقيم عام، والدور البارز الذي لعبه في تنفيذ السياسة الاستعمارية الفرنسة، وفي تحديث المغرب وإنشاء إدارة مركزية قوية لتدبير شؤونه؛ كما يتناول توغل الفرنسيين داخل البلاد واصطدامهم بالريفيين، ما أدى المواجهة العسكرية بينهما عند نهر ورغة، التي وقعت في الفترة الممتدة بين ربيع وصيف 1925 بين القبائل الريفية تحت قيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي وسلطات الحماية الفرنسية تحت قيادة المارشال هوبير ليوطي، وانتهت بتخلي الفرنسيين عن المنطقة وانسحابهم منها.
كما يتطرق الكاتب لاتفاق الإسبان والفرنسيين على فتح مفاوضات مع الحكومة الريفية، وعقد مؤتمر وجدة بحضور الوفد الريفي، ثم فشل المؤتمر بسبب رفض الريفيين الشروط التي وضعتها فرنسا وإسبانيا، وما أعقب ذلك من تشكيل تحالف بين فرنسا وإسبانيا والهجوم على بلاد الريف، والاستيلاء على تركيست معقل محمد بن عبد الكريم الخطابي، ما أدى إلى استسلامه ونفيه في نهاية المطاف.
ونشر كتاب “فرنسا، إسبانيا والريف” عام 1927، أي بعد عام واحد من انتهاء حرب الريف، ما يعني أن هاريس كان يقوم بتوثيق الأحداث مباشرة إبان وقوعها؛ وهذا من شأنه أن يوفر للقارئ نظرة عن الصراع من منظور معاصر يبرز الظروف والتوترات السائدة في تلك الفترة؛ كما أن علاقاته الشخصية بأطراف النزاع ولقاءاته بهم ومراسلاته معهم، وبخاصة مراسلاته مع الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، التي ضمَّن كتابه الأصلي صورا لبعضها، قد تكون ذات دلالة بالنسبة للباحثين والمؤرخين. لذلك فكتاب هاريس مهم من هذه الناحية، بالإضافة إلى أهميته من ناحية شرحه الديناميات الاجتماعية والسياسية التي أثرت في المقاومة الريفية، وتحليله تأثيرات السياسات الاستعمارية، والعلاقات بين القوى الاستعمارية حينها وتكالبها على المنطقة، والعواقب التي خلفتها الحرب على سكان الريف والمناطق الجبلية، علاوة على تسليطه الضوء على شخصيات تاريخية أسهمت بدور بارز في أحداث تلك المرحلة، سواء كانت شخصيات أوروبية أو مغربية.
كتاب “فرنسا وإسبانيا وحرب الريف” هو آخر كتاب لوالتر هاريس عن المغرب، وهو كتاب أخطر بكثير من سابقيه، وقد نُشر عام 1927. وفي هذا الكتاب اختفى الطابع الهزلي واللمسة الخفيفة التي طبعت الأسلوب الأدبي لـ”المغرب الذي كان” و”أرض سلطان إفريقي”، ليحل محله سرد تاريخي وتحليلي جاد لحدث كبير. “شرير” الكتاب في عينيه هو محمد بن عبد الكريم، الزعيم الريفي، الذي كان مدفوعا، حسب هاريس، بالرغبة الشخصية البحتة في الانتقام من إسبانيا بعد سجنه في مليلية. ويجادل هاريس بأن تطلعات قبائل الريف كانت ستحبط لو أنها انتصرت، موردا أن مستقبلها الآن هو مع القوة التقدمية والحديثة للحماية، سواء الفرنسية أو الإسبانية.
ورغم جدية هذا الكتاب إلا أنه من الملاحظ أن تحيزات هاريس بشأن المستقبل المناسب للمغرب مازالت واضحة، وكذلك الافتراضات الأساسية حول تفوق الحضارة الأوروبية؛ ففرنسا وإسبانيا، في منظوره، رغم وحشية الحرب، تمثلان حضارة حديثة، في حين أن زعماء الريف وأنصارهم القبليين، رغم أهدافهم التي كانت ستتناسب تماما مع مظلة عصبة الأمم آنئذ، كانوا مازالوا يمثلون “البرابرة الطيبين”، حسب الأساطير الإدارية الاستعمارية الفرنسية.
وربما لهذا السبب يبدو أن هاريس يتجاهل الأدلة على الإصلاحات التحديثية التي أدخلها محمد بن عبد الكريم الخطابي في الريف، وجعلت منه ممهدا للمجموعات المدنية التي ستؤسس للحركة الوطنية في أعقاب هزيمته عام 1926.