في كتابه «الملا محمد عمر وطالبان وأفغانستان»، يفتح الملا عبد الحي مُطمئن، الناطق السابق باسم "المُلا عمر"، ملفاً مسكوتاً عنه من تاريخ أفغانستان الحديث. هذا الكتاب، الذي صدرت نسخته العربية عام 2022، يكشف اعترافات وشهادات صادمة عن جرائم وحشية ارتكبها قادة الميليشيات تحت راية «الجهاد» المزعوم. كما يزيح الستار عن وجه دموي ظل مطموسًا تحت دعايات السياسة وصراعات القوى الإقليمية والدولية.
مع انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان في فبراير 1989، بدا النظام الحاكم بقيادة الرئيس محمد نجيب الله آيلاً للسقوط. حاول الرئيس المتهاوي فتح باب مفاوضات السلام لإنقاذ نظامه، لكن ما تلا ذلك لم يكن سوى اقتتال داخلي مدمّر. فحسب رواية الملا مطمئن: "عندما غادرت القوات السوفيتية أفغانستان، اتجه النظام الشيوعي نحو السقوط يومًا بعد يوم، فبدأ نجيب الله يعرض مفاوضات للسلام، وبعد فترة وجيزة بدأت الحكومة في إخلاء مراكز المقاطعات والتمركز في عواصم الولايات. وقد سقطت العديد من مراكز الولايات في أيدي المجاهدين بعد فترة، وكان هناك تنافس وصراع مستمر بين مجموعات المجاهدين المختلفة في السيطرة على المناطق الجديدة. وكان لبعض الجماعات موقف حاد للغاية، بينما وقفت الجمعية الإسلامية والحزب الإسلامي ضد بعضهما البعض منذ وجودهما في بيشاور."
هذه الصراعات لم تلبث أن تحولت إلى حروب شوارع دامية بين الفصائل المتقاتلة، وكان المدنيون هم الضحية الأولى والأخيرة. عندما سقطت حكومة نجيب الله، كان المشهد أكثر دموية مما تخيل كثيرون. يقول عبد الحي مطمئن: "استشهد أكثر من خمسين ألفاً من أبناء كابول الأبرياء في ذلك الصراع، وكان من بين الشهداء أطفال ونساء وشيوخ".
تحولت العاصمة إلى مسرح لحرب نفوذ بين قادة الميليشيات: أحمد شاه مسعود، عبد الرشيد دوستم، قلب الدين حكمتيار، عبد رب الرسول سياف، وميليشيا حزب الوحدة الشيعي. وكل طرف من هؤلاء قاد سلسلة من الجرائم ضد المدنيين، فيما عجزت الحكومة المركزية عن بسط سيطرتها أو حماية شعبها.
من أبشع الجرائم التي وثّقها المتحدث السابق باسم ما كان يسمى "أمير المؤمنين الملا عمر" تلك التي ارتكبتها ميليشيا سياف بحق الهزارة في المناطق التي سيطرت عليها، حيث تم التنكيل بالنساء وقتل المدنيين ونهب الممتلكات. وفي المقابل، نفّذ مقاتلو حزب الوحدة بقيادة عبد العلي مزاري أعمالاً انتقامية وحشية ضد البشتون. يقول مطمئن: "تحت قيادة مزاري، قائد حزب الوحدة، انقضّ رجاله على رجال سياف بالقبض على البشتون وقطع أعناقهم وهم أحياء، ثم صبّوا الزيت الساخن عليهم. وخلال تلك العملية احتفل أعضاء حزب الوحدة على وقع حركة جثة الشخص المذبوح قبل أن تسلم الروح، وأطلقوا على ذلك المشهد اسم رقصة الموت".
هذه الجرائم ارتُكبت في قلب العاصمة كابول. ورغم كثرة الأدلة، لم يُحاكم أيّ من هؤلاء القادة على جرائمهم. اعترف مطمئن بأن أدلة كثيرة نُشرت حول هذا الموضوع ووثّقتها منظمات دولية معنية بحقوق الإنسان، ولم يُعاقَب أحد.بل إن كثيراً من قادة تلك الميليشيات حصلوا لاحقاً على مناصب رسمية في الحكومات المتعاقبة، مما يبرز عمق المأساة وغياب العدالة في أفغانستان.
الجرائم لم تتوقف عند القتل الجماعي، بل طالت النساء والأطفال في صور بشعة من الانتهاكات. يورد مطمئن شهادة صادمة عن أفعال أمراء الجهاد المزعوم: "في وقت مبكر، نهبت عناصر مسلحة تابعة لإحدى الفصائل مدينة كابول وأخذت النساء والأطفال بالقوة إلى أماكن إقامتهم وتجمعاتهم، حيث اغتصبوهم وألحقوا العار بهم. ومن كان يقاوم أو يعترض يُقتل في الحال".
أما مقاتلو فصيل آخر فقد اشتهروا بإدمان المخدرات وممارساتهم الوحشية. من بين ما أورده عبد الحي مطمئن في مذكراته: "في النزاع المسلح بين أعضاء حزب الوحدة الشيعي ومقاتلي سياف حول ملكية الأرض، تعرّضت نساء البشتون لقطع أثدائهن أحياء".
تكررت الشهادات حول نقاط التفتيش التي أقامتها الميليشيات لتحصيل الأموال أو اختطاف المدنيين. عند نقطة تفتيش تابعة لحكمتيار، كان أحد المقاتلين يرتدي زي كلب بأسنان حادة لابتزاز المارة. وفي حادثة أخرى، اختطف مسلحون امرأة حامل وقالوا لزوجها بسخرية: "إننا رأينا نساء في كل حالة باستثناء حالة الولادة، ونريد أن نشاهد هذا أيضاً".
ولم تسلم الطرق السريعة من هذه الجرائم، إذ يروي مطمئن: "أقام اثنان من المجاهدين المزعومين نقطة تفتيش على الطريق السريع قندهار - بولدك، واختطفوا الفتيات والفتيان من المركبات بهدف إشباع رغباتهما الجنسية". هذه الممارسات هي التي استغلتها طالبان في بداياتها، فهاجمت مثل تلك الحواجز ونكّلت بمرتكبيها، ما سهّل عليها كسب قاعدة شعبية والتوسع في السيطرة على ولايات واسعة.
ومن أبشع الجرائم التي ذكرها مطمئن قصة شاب كان ينقل جثمان والده للصلاة عليه، فأوقفه المسلحون على أحد الحواجز: "طلبوا منه أن يرقص حول جثة والده، فتوسل إليهم أن يتركوه لأنه لا يعرف الرقص، فأشهروا السلاح إلى رأسه، ولم يتركوه إلا بعد أن رقص لهم وأصيب بالانهيار".
هذه القصة، وغيرها من مئات الشهادات، ترسم صورة مرعبة عن مستوى الانحطاط الذي وصلت إليه بعض الميليشيات التي ادعت يوماً الجهاد والدفاع عن أفغانستان، وتتفق مذكرات الملا عبد الحي مطمئن مع ما كتبه الوزير السابق في حكم طالبان، الملا عبد السلام ضعيف، في كتابه "حياتي مع طالبان"، والتي تحدثنا عنها في مقال سابق، وكشفت عن جرائم أمراء الجهاد المزعوم في محاولة للادعاء بأن طالبان تأسست كرد فعل لجرائم فصائل أخرى من المجاهدين.
ما يكشفه كتاب «الملا محمد عمر وطالبان وأفغانستان» لا يقتصر على التوثيق التاريخي، بل يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية أخلاقية تجاه آلاف الضحايا الذين قُتلوا أو شُرّدوا أو انتُهكت أعراضهم. الأخطر أن كثيراً من مرتكبي تلك الجرائم تحولوا بعد 11 سبتمبر إلى "حلفاء" للولايات المتحدة، وتولوا مناصب رسمية تحت غطاء دولي، من دون مساءلة.
وبينما تتكرر المآسي تحت شعارات زائفة، يبقى السؤال الأهم: هل تتعلم الشعوب من تجربة أفغانستان، أم تعيد إنتاج مأساتها تحت ضغط الحاجة لمواجهة عدو آخر؟
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.