هذه المقالة مساهمة متواضعة في رفع الخلط والضبابية وسيادة السطحية، وبالتالي تضييق مجال عدم الوعي بنُبل وسُمو الفن وأدواره في المجتمع، التي تكتنف معنى الإبداع ودلالات الجمال في حقل صناعة المسرح والسينما والكليب ببلدنا، وتلقيه وفهمه والانتفاع به ذاتيًا واجتماعيًا.
مقدمة:
هل يمكن للفنان أن يظل فنّانًا إذا بقي حبيس ما “نجح” فيه سابقًا؟ هل يكفي أن ينتشر منتوج سينمائي أو تلفزي أو غنائي كي يُسمّى “إبداعًا” وفقًا لما تم الاعتراف به من قبلُ، في سوق الأغلبية وفي ساحة المرغوب فيه إيديولوجيًا وسياسيًا/انتخابيًا، ولكي يظل الممول والصانع والتقني والمُشخِّص كلهم يصنفون أنفسهم مُبدعين؟ في قلب هذا النوع من الأسئلة ينبثق سؤال الجمال، ليس باعتباره تجربة حسية تتوقف عند حدود السطحي بصريًا وسمعيًا، بل باعتباره فعلًا نقديًا وبكونه انفلاتٌ دائم من مُطابقة الذات وعكسِها داخليًا. في هذا السياق الفلسفي الجمالي، يتقاطع الفكر الجمالي الكلاسيكي مع التأملات الحديثة، خاصة لدى الفيلسوف الفرنسي المعاصر فرانسوا جوليان François Jullien، الذي يربط الإبداع لا بما يُقال ويشاع ويصفق له ذاتيًا وسوقيًا وكميًا – فذلك نجاح أكيد لكنه مطابقة وامتثال “للمطلوب” – بل بما “ينفلت” من القول الجماعي المُمجِّد للذات وللتطابق معها ومع “المطلوب”، في زمنٍ ومكان محددان إيديولوجيًا. إن ادعاء الإبداع، (ولِبْسُ نظارات غامضة لإخفاء تقاسيم وجوه يتوهّمُ أصحابها وجودهم في فُقاعة “شهرة”/واقع، إنما هو إخفاءٌ ماكرٌ لابتسامة فرح بخِداع عامة قد ينقلب لـ”حالة”.)، يمر عبر الطريق حيث يتخذ الفن مكانه في المنطقة التي تنفلت من التعريف والتصنيف وإعادة الإنتاج.
لا يمكن الحديث في مجال الجماليات والإبداع وما يرتبط بهما من قيم نبيلة، ومن معرفة عميقة، ومن مفاهيم محددة، دون السفر على درب تفكير ملائم في استكشافٍ دقيق لمفاهيم ليس أقلها: الاختلاف والتباعد والمسافة وفكُّ التطابق مع الذات، ومفاهيم جوهرية في تفاعلها مع الجمال والإبداع ومنها: الواقع والحرية والوعي والذوق والتخييل واللاوعي والجماهير إلخ. هنا مساهمة سريعة وأكثر من مختصرة على أمل عودة متكررة ومختلفة، مساهمة في تبديد غيوم انحرافات تنتشر كالنار في الهشيم في زمن يتسارع في تطوره وفي تغيُّراته.
أولًا: الحكم الجمالي كاختلاف لدى الفيلسوف إيمانويل كانط.
يطرح الفيلسوف في كتابه “نقد ملكة الحكم” – Kritik der Urteilskraft – 1790 – يطرح الجمال بوصفه “حكمًا لا يشكل مفهوما ولكنه مع ذلك كوني”، أي أنه ليس قائمًا على قواعد محددة، بل ينبثق من اتفاق شعوري بين الأذواق دون أن يكون مبنيًا على مفاهيم، فالجمال عنده إذن هو ما يُرضِي بلا غرض”.
هنا، تصبح قيمة الفنان في قدرته على كسر الغاية من ممارسة الفن، وليس خدمتها. فإذا تبع الفن والفنان ما يُنتظر منه، أصبح مجرد تمثيل لا تجاوز فيه لما سميناه “المطلوب”. ومن هذا المنظور، فإن الإبداع في السينما أو الموسيقى أو التلفزيون المغربي لا يكون مبدعًا إلا عندما لا يكون تكرارًا للمألوف وللمطلوب في سوق تتميز أصلاً بخلط كبير بل وعميق بين أنواع ودرجات ومستويات وأهداف وغايات الفن، وبدور الفنان ومعنى الإبداع وعلاقته بالنمطي وما هو، أقول بوضوح أكثر، ملقى على قارعة الطريق يردده الكل ولا يقبل غيره، حتى وإن بدا “ناجحًا كميًا وتسويقيًا”.
ثانيًا: الجمال كتجلي للفكرة – هيجل.
أما الفيلسوف هيجل في كتابه “محاضرات في علم الجمال” – Vorlesungen über die Ästhetik – فإنه يرى أن الفن هو المكان الذي تتجلى فيه الفكرة في الحس، أي أن الجمال هو اتحاد المعنى مع الظاهر، فالفن لا يحاكي الواقع، بل يُعيد إنتاجه بطريقة تكشف الروح، الروح الخلاقة للفنان. هكذا يكون الفن هو إعادة تشكيل الواقع بما لا يخطر على بال، يدهش ويمتع ويفيد ويسمو بالحس وبالعقل فوق المألوف والنمطي والمستهلك والمعروف الذي لا طائل من تكراره للباد وللعباد، غير تشويه الفن وعرقلة الوعي الجمالي، وتبخيس الفن نفسه فتح بابًا لكل من هب ودب لولوجه.
من هذا المنطلق الفكري الجمالي الفلسفي نقول، إن الكليبات الغنائية المغربية، والمسلسلات التي تعيد إنتاج نفس الأوضاع/الصراعات العائلية، التي تُكرّس نماذج الجسد المألوف والأيقونات المعتادة وكل الأشكال الفولكلورية والإثنوغرافية والاجتماعية الأنثروبولوجية، التي تتسم بالنمطي وبالشيوع وبكونها مستهلكة ودخلت في باب المتخيل الجماعي، حتى لو كانت نبيلة ومتجذرة في التاريخ، هي فنون خالية من الروح ما لم يتم تقديمها في صيغ جديدة مدهشة وفاتنة وغير منتظرة، لا تمس روحها ولا تشوه مظهرها ولا تختزل بسطحية ورعونة أصالتها، وإلا فسوف تكون ببساطة لأنها جوفاء خالية من الفكرة.
ثالثًا: نقد الصناعة الثقافية – مدرسة فرانكفورت.
في كتابهما “ديالكتيك التنوير” – Dialektik der Aufklärung – ينتقد الفيلسوفان أدورنو وهوركهايمر “صناعة الثقافة” التي تجعل من الفن مجرد منتج استهلاكي يُنتج بمقاييس السوق، ووعي العامة وذوقها. فبالنسبة لهما: “ما يُسمى بالفن الجماهيري إلا إنكارًا للنفس”. – تيودور أدورنو.
ينطبق هذا النقد بدقة على كثير من الإنتاجات المغربية اليوم في السينما والتلفزيون والمسرح وصناعة الكليب التي تعرف انتشارًا غير مسبوق بين الأجيال الصاعدة خاصة وهي أمل مغرب الغد، مستمتعة، إضافة إلى الربح المادي، ب”سلطة” وبدور كبير في التأثير على الذوق العام وما يرتبط به جوهريًا من وعي، مدني واجتماعي وسياسي وجمالي، يؤثر في التفكير وفي السلوك وفي فهم الحياة وفي تحديد معنى الأسرة ودلالات قيم الحب والوطن والفضاء العام، ناهيك عن معنى الزواج والصداقة وغيرها من القيم المؤثرة فيما تعرفه المملكة، من تحديث ومن مجهود غير مسبوق لبناء تقدم وصيانة وتقوية للوحدة والاستقرار والأمن، في عالم مجنون يتحول بعنف لا يُبقي ولا يذر. إنما نريد لفنوننا ولفنانينا – من استطاع إلى ذلك سبيلًا – أن تكون فضاءً لإبداع يدهش ويفتح آفاقًا لا تخطر على بال عن معرفة وفكر وتجريب، وأن تتحول إلى مرآة لا تُظهر ما نعرفه سلفًا إلا بصيغ مبتكرة تستلهم عبقرية المغربة، وحيث لا تشويق للاكتشاف بعد كسر أفق الانتظار، ولا مفاجأة تباغت، ولا سؤال يحفر في النمطي المطابق لغرور الذات ولكسلها ولتقليديها الذي تجتره تحت ضغط الإدارة المدبرة والنقد السطحي ومعايير الدعم المفاوضة للواقع وللجاهز وللخوف من التغيير. إننا في كل شاشاتها، على قِلّتها المريعة، وفي خشباتنا الأقل أيضًا، أمام فقط سرديات متكررة وشخصيات مصممة لتُرضي الذوق العام لا لتتجاوزه وتسمو به وتتعالى بحدوده فوق “المطلوب واللي كاين”/المتاح.
رابعًا: فرانسوا جوليان: الجمال كاستراتيجية “البَوْن”.
يرى فرانسوا جوليان في كتابه “مديح الفتور” (Éloge de la fadeur, 1991) و”التغيرات الصامتة” (Les Transformations silencieuses)، أن الجمال ليس في “الإبهار” بل فيما لا يُقال وتعويضه للمطابق للذات من نمطي متكلس وجامد بعل العادة. فالجمال هنا لا يقوم على “التميّز” بالمعنى السطحي، بل على خلق منطقة من غير المُتوقع واللامُفكَّر فيه، وهو ما يسميه فرانسوا جوليان بـ”الاختلاف الذي لا يُختزل”. لا يقوم الإبداع في نظر هذا الفيلسوف المُشبع بالفكر الفلسفي والعملي والعقلية واللغة الصينية: “على إنتاج المفاجأة، بل على تحريك الإحساس بما كان جامدًا فينا.” – فرانسوا جوليان. وبهذا المعنى، يصبح الفنان هو من “يُزيح” معنى الجمال من مكانه، يخرجه من التمركز حول ذاته.
في هذا السياق حين يتمكن مخرج مغربي مثل فوزي بنسعيدي أو داوود أولاد السيد أو جيلالي فرحاتي أو محمد مفتكر أو مريم توزاني أو محمد عبد الرحمان التازي أو ادريس المريني… من صناعة فيلم لا يلتزم، بسبب فقر في التخييل، بنمط السرد الواقعي الفج، ولا يخضع لمنطق الصراع الدرامي الغربي النمطي الذي من الصعب معادلته على كل حال، يستطيع اكتشاف لغته الخاصة، يكون قد مارس الإبداع بمفهوم الفيلسوف فرانسوا جوليان، لا من حيث هو “اخترع” جديدًا، بل من حيث هو خروج عن التطابق (Coïncidence) الذي يجعله فريسة للمألوف والمطلوب والنمطي، وبل وللادعاء الكاذب على الذات قبل الكذب على الآخر.
خامسًا: أمثلة أوسع من الواقع المغربي.
1 – السينما المغربية.
تفتح أفلام مثل: “علي زاوا” أو “ألف شهر” وفيلم “يا له من عالم رائع” أو “معجزة القديس المجهول” أو فيلم “خريف التفاح” أو فيلم “باديس” وفيلم “عصابات” وفيلم “باب على السماء مفتوح”…
أفقًا جديدًا للسرد، لا لأنها مبهرة بصريًا وقوية دراميًا، مع اختلاف صِيغها الإخراجية وأزمنة وظروف إنجازها زمانًا ومكانًا، بل لأنها تخرج عن النمط المألوف والنمطي والمعطوب، فهي في سيرها ببطء أو بسرعة في حكيها، تُقلق المشاهد في حبكاتها وتضعه في فراغ دلالي يدفعه للتساؤل بعد التماهي، وتحفّزه على البحث عن التفسير التأويل خارج المألوف، وبعيدًا عن اجترار قوالب قراءات حكائية سطحية بئيسة وفقيرة في خلخلة النظرة للفيلم وللسينما. لكن الواقع أن الأغلبية الساحقة مما يتجاوز حوالي ست مائة فيلم مغربي طويل لحد الآن، لا يرقى إلى مستوى الإبداع بالمعنى المذكور للكلمة. تحتاج مملكة السينما المغربية إلى تأمل أعمق في مملكة السينما العالمية بمختلف مراحل نموها ووظيفيتها وهياكلها والأهم، تحولاتها الحالية في توازٍ وتفاعل مع التحولات العالمية الشاملة: لنغير أسس وهيكلية المُلتقيات والحوارات والدراسات المطابقة لذاتها وللمطلوب، سواء مقصودة في ذاتها أو باعتبارها ذرائع لأهداف أخرى، أو أنها، عن حسن نية، مصممة ممن لا “همّ” له.
2 – الكليب الغنائي.
على الرغم ليس من نجاح بعضها وطنيًا وعربيًا وأحيانًا “دوليًا” – على منصات اليوتيوب وغيرها من منصات مُعولمة، وحيث الكلمة والرأي والحكم، كما قال الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو لمن لا حق له ولا فكرة له – تسقط أغلب الكليبات المغربية في فخ التطابق والنمطية والتكرار: نفس النماذج “الجمالية”، نفس الرموز (ملابس هجينة بين المغربي التقليدي والعصري البراق الاستعراضي، إكسسوارات من عمق الأمس المغربي الأصيل، في سياق تلفيقي يعكس الموجود في “الشارع” والنمطي الشائع والممتد في ديمومة اليومي المستهلك واللامُفكر فيه، والسيارة الرياضية أو الفارهة، والمرأة البلاستيكية الجمال، ومظاهر تخمة المال المستوردة…)، ونفس حركات الكاميرا وزوايا وضعها المفتعلة والجوفاء دون مضمون ولا مبرر جمالي بصري أو دلالي، والكلمات غير المتّسقة بين ما هو عصري وما هو تُراثي، حيث غياب الحس الشعري وفقر المعنى وسطحية الموسيقية النظمية: هنا يختفي الفن، ويحل محله التسويق. على مقاس تحقيري لذكاء بلد عريق وشعب أصيل!؟ ولعل النجاح المادي الكمّي يقتل عنفوان الإبداع ويقوي وهم النجاح، كما أنه يغري العامّة ومُتصيِّدي الفرص الانتخابية وعقيمي مخيلات التدبير والتسيير، ومقتنصي فرص التسلق والربح السريع، لركوب أمواج تقليعات لا جذور لها باسم الهوية الوطنية والتلاؤم مع العصر واكتشاف “المواهب”: رحم الله عبد النبي الجيراري وبرنامجه مواهب.
3 – المسلسلات المغربية.
قلة قليلة جدًا من المسلسلات تجرأت على كسر النمطية. باختصار شديد حاولت بعض الإنتاجات توظيف الكوميديا السوداء، والعنف الأسري القاسي للقيام بذلك، لكن السياقات سواء التاريخية أو الواقعية كانت هجينة ومُفتعلة في أغلبها وفي صِيغها العامة، وما تزال أغلبيتها محكومة بنمط ضعيف من “الواقعية الاجتماعية” المطابقة للمتوقّع، وللسائد الضحل الملقى على قارعة رصيف اليومي المستهلك: إنها صيغ حكي مُفتعلة”. يكفي النظر إلى شباك التذاكر حيث أفلام ومسلسلات “يفخر” البعض بـ”تجاوزها” لأفلام دولية عالية المستوى!؟!؟ في “شباك التذاكر” الوطني – أي شباك وكم من شاشات وأي جماهير وبأي ذوق وتكوين وتحت مظلة أي تعليم وأي كتاب وطني ووو.
خاتمة: الفن لا تطابقٌ دائم.
إن الفنان، كما يقول فرانسوا جوليان، لا يصنع الجمال بل “يُزيحه” أي يُحرِّكه من منطقةِ وفضاء “المطلوب والمنتظر والمتوقع”… فالفن والفنان لا يُنتجان شيئًا من لا شيء، بل يُعيدان توجيه الانتباه نحو ما تم تجاهله بعمق وبطريقة غير منتظرة هي ذاتها، فليس المبدع خالقًا، بل هو “مُباعدٌ” عن المألوف. ومن هنا، فمستقبل الفن والفنان المغربي – في السينما والتلفزيون والمسرح والكليب والموسيقى، رحم الله ابن فيروز والرحابنة العبقري زياد الرحباني – لا يكمُن في مزيد من الإتقان التقني، بل في القدرة على كسر التطابق مع الواقع ومع المجتمع بل وحتى مع نفسه. كفن مغربي ظل حبيس السائد والنمطي والمتوقع، وزادته قوة – باستثناءات نادرة لنقول الحقيقة كما هي – صفاقة الهجانة ومن يركبها، والتطابق مع المطلوب الآن وهنا الممتدة امتداد غياب “تباعُد” مفكّر فيه بنيوي وشامل من أجل فن مغربي وفنان وطني “مختلف”.