أخبار عاجلة

صناعة الذات في زمن المؤثرين .. حين تصبح الحياة حملة إعلانية طويلة

صناعة الذات في زمن المؤثرين .. حين تصبح الحياة حملة إعلانية طويلة
صناعة الذات في زمن المؤثرين .. حين تصبح الحياة حملة إعلانية طويلة

في عالم تُعاد فيه صياغة الواقع عبر الشاشات لم يعد التأثير مقترنًا بالمكانة الثقافية أو الإنجاز الفكري، بل صار وظيفة قائمة بذاتها، تتأسس على القدرة على الظهور والتكرار وتكثيف الذات ضمن إيقاع رقمي سريع؛ لم يعد التأثير فعلاً عابرًا بل مشروعًا طويل الأمد، تُبنى فيه الشخصية وتُدار كما تُدار الحملات التسويقية، ويُروّج لها كما تُروّج العلامات التجارية.

يقدّم المؤثر ذاته للجمهور على هيئة يوميات تبدو مألوفة: صباحات هادئة، تمارين رياضية، وصفات صحية، رحلات، ووجهات نظر حول مسائل عامة. لكن هذه اليوميات، في حقيقتها، ليست انعكاسًا عفويًا للحياة، بل اختيارات محسوبة تُعرض ضمن سيناريو دقيق يحاكي الواقع دون أن يكونه. الجمهور لا يتابع منتجًا بحد ذاته، بل يتابع حياةً أُعيد إنتاجها لتكون قابلة للاستهلاك، حياةً تحولت إلى محتوى.

العلاقة بين المؤثر وجمهوره لم تعد تقوم على المسافة والرهبة، بل على القرب والتفاعل. يطلب المؤثر رأي متابعيه في كل شيء، من نوع القهوة والجوارب إلى تفاصيل حياته العاطفية، فيشعر المتابع بأنه ليس مجرد مستهلك، بل جزء من القصة. هذه العلاقة الأفقية تمنح شعورًا زائفًا بالحميمية، لكنها في الواقع مبنية على فهم دقيق لسلوك الجمهور وآليات التفاعل الرقمي. فكل خطوة، وكل تعليق، وكل لحظة “عفوية” تُصنع لتُثير الاستجابة المطلوبة، وتحافظ على الحضور المستمر.

المؤثر في هذا السياق ليس مجرد صانع محتوى، بل هو مدير مشروع معقد، يبدأ من التصوير والتحرير ولا ينتهي بتحليل مؤشرات الأداء. الوقت، الصورة، الصوت، اللغة، المشاعر، وحتى الأزمات تُوظّف وتُدار بحساب. لا مكان للمصادفة، ولا مجال للغياب، فخوارزميات المنصات لا ترحم الغائبين، وتُكافئ من يظل حاضرًا، مهما كانت طبيعة المحتوى. وهكذا، تتحول الذات إلى علامة، والوجود الشخصي إلى أداء متواصل.

تُشجّع المنصات هذا النمط من الحضور، لأنها تقوم على “اقتصاد الانتباه”. كل نقرة، وكل تعليق، وكل مشاركة تُترجم إلى بيانات وقيمة سوقية؛ ولهذا فإن المؤثر الذي لا يُنتج ذاته يوميًا يشعر بالخوف من التراجع، لا لأنه فقد جمهوره فقط، بل لأنه فقد موقعه في خوارزمية التصنيف. حتى الصمت لم يعد خيارًا، بل حدثًا يستوجب التبرير، وربما الاستغلال العاطفي.

تتنوع مجالات التأثير بتنوع الجماهير، من الجمال إلى الرياضة، ومن الأمومة إلى التكنولوجيا، لكن القاسم المشترك بين جميع المؤثرين هو استثمار الذات بوصفها محتوى. ومع تطور السوق بدأت العلامات التجارية تفضّل المؤثرين الصغار نظرًا لارتفاع معدل التفاعل لديهم، في حين يُستخدم المؤثرون الكبار لنشر الوعي العام بالمنتجات. وهكذا يصبح الجسد، والصوت، ونمط الحياة، مجرد أدوات ضمن إستراتيجية تسويقية أوسع.

غير أن الطريق إلى التأثير ليس مفروشًا بالحرية، فالمنصات تحدد ما يُرى وما يُهمل، وتُعلي من شأن المثير على حساب المفيد. والمحتوى الذي يطرح أسئلة أو يعارض تيارًا سائدًا غالبًا ما يُقصى. من يريد البقاء عليه أن يتأقلم، أن يكرّر، أن يرضي، وأن يعيد إنتاج نفسه بما يناسب الذوق العام والمتطلبات التقنية.

في ظل هذا التشابه والتكرار تزداد صعوبة التميّز، فيلجأ المؤثرون إلى ابتكار “شخصيات رقمية” واضحة المعالم، مثل الأم المثالية أو الشاب الطموح أو الخبير في العناية بالبشرة. إنها شخصيات مُعلّبة، تُسوّق كما تُسوّق السلع؛ ومع الوقت لا يبقى من الذات إلا ما يصلح للعرض، أما البقية فإما تُخفى أو تُعاد صياغتها.

ليست ظاهرة المؤثرين مجرّد موضة عابرة، بل تجسيد دقيق لزمن يخلط بين الشخصي والعام، بين العيش والتسويق، بين التعبير والتمثيل؛ نحن نتابعهم لا لأنهم استثنائيون، بل لأنهم يشبهوننا، أو لأننا نرغب بأن نشبههم. ومع هذا التماهي يتحول النموذج الفردي إلى نمط جماعي.

ولعلّ السؤال الحقيقي الذي يطرحه هذا الزمن لم يعد “من هو المؤثر؟” بل “كيف يمكن أن نصبح كذلك؟” — في عالم لم يعد يرى في الإنسان فردًا، بل مشروعًا بصريًا قابلًا للمتابعة.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق الداخلية تضبط 5 أطنان دقيق في حملات تموينية مكثفة على المخابز خلال 24 ساعة
التالى الاتحاد يطلب ضم موهبة الأهلي ضمن صفقة مروان عطية