جدّد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الثناء على “المقاومة” في غزة الفلسطينية، قائلا في محطة من أحدث تدخلاته إن “ما يحدث في غزة فساد في الأرض لم يسبق له مثيل”، وفي محطة أخرى ذكر أن “إخواننا وأحباءنا في غزة أعظم عملا منا، وأعظم قدرة على التفكّر منا”، مردفا أن “الأمّة” اليوم أكثر “عملا أعظم منها فكرا”؛ فـ”ما وصلنا له بالعمل لم نصل له أبدا بالفكر”.
جاء هذا في تدخل من إسطنبول التركية في “ديوان الشرق”، شدّد فيه الأكاديمي المتخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق على أن “الحُر ثم الحر، هو الذي في النفق؛ لأن فكره تحرر، وعمله متحرر، بينما نحن مقيّدون عملا، ومعتقلون عقلا، والعقل في هؤلاء، وعدّوني منهم، اعتقال وليس تحريرا”، في سياق حديثه عن “المقاومين في غزة” فـ”المَشاهد التي تقدّم إلينا، مراسم تدلّ على التفكر البعيد لهؤلاء، وما وصلوا إليه من رقة العقل، وعمق الوجدان، والصلة بالإشهاد، والأمانة، بل الصلة بالمستأمِن والمُشهد سبحانه وتعالى. وهذا هو الفكر الحقيقي، الذي ينقد الأمة وينقد الإنسانية، وينقد العالم، لكن خلوّنا نحن خارج الأنفاق، نعتبر أنفسنا أحرارا. بل الحرّ ثمّ الحرّ هو الذي في النفق”.
تجدر الإشارة إلى أن صاحب “ثغور المرابطة” سبق أن قال: “العالم الآن كله غزة، لأن حاجته إلى التفكر لا تقل عن حاجتها إليه؛ فالشر المطلق يحاصر العالم، ويعتقله كما اعتقلت غزة، لكن باعتقال خفي لا اعتقال ظاهر، والدليل هو أن الإرادات في الزعامات عطلت (…) ولم تعد تثيرها المفاسد الوحشية، وجمدت العقول في مثقفي العالم وعلمائه ومفكريه، فلم تعد تستفزها إبادته الجذرية. والحاكم ليس الظاهر بل الخفي، واعتقالنا ظاهر وليس باطنا، وقوة الغزاويين أن ظاهرهم معتقل وباطنهم غير معتقل”.
وفي أحدث تدخلاته، ذكر طه أنه قد حاول “فيما يتعلق بأحداث غزة حفظها الله، وهي محاولة ابتدائية، وجاء كلامي الفلسفي فيها عرضا، أي لم أخصص لها تنظيرا طويلا في الموضوع. لكن يبقى أني حاولت وضع مفاهيم جديدة، ينبغي أن نستنبطها من المقاومة لنجعلها أدوات فكرية نحلل بها قضايانا فكريا، مثل مفهوم “الثغر” الذي معناه ليس فقط المكان الذي يلزمه المرابط دفعا لعدو محتمل، ولكن في التفكير أيضا نحتاج ثغورا لمواجهة أفكار العدو، وعلينا أن ننتصب في ثغور مختلفة، كل منا على إمكاناته في ثغر معين، يبذل كل ما يمكن من قدراته وإبداعاته في الخروج بفكر يرتقي بالأمة إلى المستوى العملي الذي وصلت إليه”.
ومن بين ما تحدث عنه طه عبد الرحمان، انشغاله في جزء مهم من حياته بـ”إشكال جمود عقل المسلمين”؛ مردفا: “كان همي كيف الخروج من التقليد إلى الإبداع، فغادرت بلدي، وتعاطيت الدرس العلمي، ودرستُ اللسانيات حتى صرت أستاذا فيها”، إلى أن قال: “التقليد تقليدان، تقليد المتقدمين وتقليد المُحدثين، فالمحدثون على تقدمهم مقلّدة، والمتقدمون على ما أعطوه أيضا من معارف أصبحوا محل تقليد”.
وقدّر طه أن “الذي حجب كليا الوصول إلى الإبداع (…) الحداثيون الذين يقولون بإنكار التراث، ولا أعني أولئك الذين يقولون نريد تراثا نحتفظ فيه بالمفيد ويتركون اللامفيد فهؤلاء على الأقل قدروا جوانب من التراث وإن لم يأتوا بالإبداع”، فكان عليه بالتالي في سياق الردّ وتقديم البديل “التمكن من كل الوسائل التي يدعون استخدامها لتقويم التراث، والتمكن من وسائل أقوى، ومن الأصول والأسباب التي جعلت الآخرين يصلون لهذه الوسائل (…) فكان يسهل عليّ (بعد ذلك) تبديل الوسائل بوسائل أخرى، بدل أن أستعمل الأسباب الثقافية والتقنية للآخرين”.
ومن بين الأسماء التي جاءت على لسان طه عبد الرحمن في اللقاء، الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي، الذي تحدث عنه بالقول: “الفيلسوف محمد عزيز الحبابي أستاذي، وهو إن لم يكن مبدعا على المبدأ الذي قلت، إلا أنه فيلسوف، ومما حفظت عنه حكمة قالها: أنا لا أفكر برأسي بل أفكر برجلي. فقلتُ له: إنك مشّائيٌّ. والمشّائيّون أرسطيّون يسيرون في الأرض ليستعينوا بذلك على التفكّر؛ وفي المشي معنى من معاني السلوك، المعينة على التفكر، وإذا خلا الإنسان عن التفكير يمكنه الاستعانة (عليه) بالمشي”.
وتكرّر في التدخل الجديد لطه، حديث عن أن “الفلسفة بقيت على النقل، فجمد الفكر الفلسفي اللهم إلا من بعض التقليعات أو الموضات الفكرية من بنيوية وتفكيكية وماركسية… يعرفون (مقلّدتها) بداياتها وعناصرها الأولى، ويفاخر بعضهم بعضا أنه جمع علم الأولين والآخرين وهو في جهل لا جهل بعده”.
كما أورد أن “كثيرا من أحكام الشريعة مطبّق، لكن القيم التي تحتها ليست محقّقة، مما أدى إلى أن الفقهاء أصبحوا يكتفون باستخراج الأحكام، وإفتاء الفتاوى بدون أن يرجعوا إلى القيم التي من وراء الأحكام، فأصبح الإنسان يتعبد آليا ولا يتعبد قيميا”.
صاحب “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي”، و”الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري”، سجّل في تدخّله أنه يخرج بـ”دعاوى وقضايا لا يعتبرها قطعية وملزمة للآخرين”، ليسترسل قائلا: “لكن، أقولها بيقين، لإيقاني بصحتها من حيث إمكاناتي المعرفية، ومن حيث الأدلة التي بين يدي. ولكن، هذا لا يعني أنه إذا جاءني أحد وقال لي لا قيمة لفلسفتك الائتمانية، أو أنه لا يسلّم بأن أجعل من الثغر مفهوما فكريا… أقول له فليكن، قدّم لنا البديل، وكل ما أطلب ألا تنقد بغير أن تقدّم البديل، واليوم نحن محتاجون إلى بديل، وكل من يتكلّم ولا يقيم بديلا كلامه غير مقبول، وإلا لن نبدع أبدا”.
وشدّد طه عبد الرحمن في ختام كلمته مخاطبا جمهوره: “عليك تحديد ثغرك للعمل من أجل الأمة، بكل الوسائل التي تجعل عقلك يتسع لأقصى قدر ممكن من المعرفة” حول تخصّصك. لينتهي إلى أن “المهم أن أبدع، والإبداع هو الإتيان بالبديل، بشيء غير مسبوق، ولتأتوا بشيء غير مسبوق مكان ما أقول”.